سأعود إلى كتاب الصديق الدكتور عبدالحسين شعبان عن شاعر العراق والعرب محمد مهدي الجواهري الذي أهداني، منذ أيام، منه نسخة، في طبعته الثانية المنقحة، حين التقيته في مؤتمر بمدينة الشارقة، ولكن الكتاب أعاد الى ذهني ذكرى تخص الجواهري وإقامته لسبع سنوات متواصلة في مدينة براغ الجميلة، عاصمة جمهورية التشيك اليوم، وتشيكوسلوفاكيا في تلك السنوات. في عام 1996 قصدتُ براغ سائحاً لأيام. صديقي منذ أيام الأنشطة الطلابية والشبابية رواء الجصاني ابن شقيقة الجواهري، المقيم في براغ أخذني إلى مقهى في قلبها. قال لي انه من المقاهي المفضلة للجواهري في المدينة، فطالما قصده، ولعل فيه لمعت في خياله الخصب مطالع قصيدة أو أكثر من روائعه التي خلدها الزمن. حين عدت إلى الإمارات، وكنت حينها مقيماً فيها، كتبت انطباعاتي عن براغ وعن الجواهري في زاويتي اليومية في جريدة «الخليج»، وبحثت عن هذا المقال بين أوراقي منذ فترة فلم أجده لحظتها. ومنذ أسابيع وربما شهور قليلة كانت الشاعرة الإماراتية خلود المعلا تعد الرحال للسفر في مهمة إلى براغ، فسألتني: هي المرة الأولى التي ازور فيها هذه المدينة، فهل تستحق أن ترى؟ فأجبتها: يكفي براغ مجداً أن الجواهري أحبها. يتذكر دارسو الأدب التشيكيون بفخر ما قاله الجواهري عن مدينتهم الجميلة، التي تكاد تكون مدينة مطلية عن آخرها بماء الذهب، حيث القباب الذهبية التي تعلو الكنائس والمتاحف والمباني، لذلك سموها مدينة الذهب، وهي من المدن الأوروبية القليلة التي نجت من الدمار فترة الجنون النازي، لأن هتلر باغتها بالاحتلال في بدايات الحرب قبل أن تستعد للمقاومة. بُهر الجواهري ببراغ التي اتخذها ملاذاً يوم كان القمع الدموي يطبق على العراق مطالع ستينيات القرن العشرين، وما أكثر ما حياها في العديد من قصائده، بينها تلك التي يقول مطلعها: «أطلتِ الشوط من عمري * أطال الله من عمرك/ وما بُلغت بالسر * ولا بالسوء من خبرك/ وغنتني صوادحك النشاوى * من ندى سحرك/ ولم يبرح على الظل * بعد الظل من شجرك». لكن كما السياب الذي في غربته ظل يهتف: «الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام * حتى الظلام أجمل وهو يحتضن العراق»، فان عشق الجواهري لبراغ، لم ينسه «دجلة الخير»، التي ظلت توق الروح ومقصدها، لأنه مهما أصبح الوطن جاحداً بحق أجمل وأروع أبنائه، فيدفع بهم قسراً الى ما وراء أراضيه، ليس بوسعه أن يحول بينهم وبين حبهم له. ومن براغ بالذات خاطب أبو فرات دجلة: «حييتُ سفحك عن بعد فحييني * يا دجلة الخير يا أم البساتين/ حييتُ سفحك ظمآنا ألوذ به * لوذ الحمائم بين الماء والطين/ يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه * على الكراهة بين الحين والحين/ إني وردت عيون الماء صافية * نبعا فنبعا فما كانت لترويني».
صحيفة الايام
13 مايو 2009