برغم كل شبكة التعقيدات التي أحاطت طيلة السنوات الماضية بمسألة العملة الخليجية الموحدة، فقد أعلنت الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الأسبوع الماضي عن اختيار الرياض مقرا للمصرف المركزي الخليجي المزمع. هذا الإعلان هو الآخر لم يكن موضوع إجماع. فعمان كانت قد انسحبت أصلا من مشروع العملة الخليجية الموحدة، بينما تحفظت الإمارات مقابل عدم اختيارها مقرا للمصرف المركزي، وهي التي لا تستضيف أيا من المؤسسات التابعة للأمانة العامة للمجلس. وكل تلك اختلافات طبيعية حصلت، مثلا، أثناء عملية الوحدة النقدية الأوربية قبل ظهور منطقة اليورو. ورغم أن الموعد المضروب لإطلاق العملة الخليجية الموحدة في العام 2010م كاد أن يفلت إلى أجل غير مسمى، إلا أن إعلان مقر المصرف المركزي وضع لانزياح موعد إعلان العملة حدا زمنيا بحدود العام 2013م. وهذه أيضا من المشكلات الطبيعية التي يمكن أن تواجه عملية اقتصادية – سياسية بحجم إقامة اتحاد نقدي مالي.
لا يصعب على المراقب إدراك أن الأزمة النقدية – المالية العالمية خلقت عاملا موضوعيا ساعد في اختصار المخاض وتعجيل اتخاذ هذه القرارات التي تشكل خطوات مهمة في الاتجاه الصحيح. وهي خطوات ضرورية، لكنها تبقى غير كافية تفتقر إلى إنضاج العامل الذاتي المتمثل في وعي جوهر التحولات العملية والنظرية الجارية بانهيار الهرم النقدي – المالي العالمي الراهن وولادة آخر جديد. إنضاج هذا العامل الذاتي سيحدد مكان ودور مجلس التعاون في النظام العالمي الجديد. والفرصة تاريخية، لأن السعودية – مقر المصرف المركزي الخليجي – هي الدولة الخليجية والعربية الوحيدة الداخلة ضمن مجموعة العشرين والتي قد يكون لها حظ معقول في صياغة هذا النظام. دعونا نتأمل بعض ملامح هذه التحولات.
الحقيقة التي أصبح يقر بها الاقتصاديون الواقعيون اليوم هي أن النظام النقدي – المالي العالمي قد نضج فعلا، لكن إلى درجة العفن، وأن مآله التاريخي هو الانهيار القريب بتفاعل على هيئة حلقات سلسلة. الذين بقوا يسخرون من هذا السيناريو هم إما الذين يعتاشون ويسمنون على الأزمة أو الذين لم يفقهوا كنهها بعد. لكن السؤال الذي أصبح يطرح بإلحاح، وخارج أميركا غالبا، هو: ما الشكل الملموس الذي سيبدو عليه نمط العلاقات الذي يجب أن يحل محل النظام النقدي – المالي العالمي الحالي؟
خطوات أكثر جرأة للإجابة على هذا السؤال يجري اتخاذها منذ زمن في منطقتي شرق وجنوب شرقي آسيا. بدأ ذلك من اللحظة التي أصر فيها رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير بن محمد على اتخاذ إجراءات بشأن التنظيم والرقابة النقدية المالية، والتي لم يعد مجال للشك في نجاحها. وحتى ردود الأفعال اليائسة والاستفزازية التي أبداها لاري سامرز وألان غرينسبان لم تفعل سوى أن نشطت الجدل حول هذه المواضيع خارج آسيا أيضا. الحديث يجري، من حيث الجوهر، عن ظهور نظم اقتصادية إقليمية للتعاون. وبتكرارها في أقاليم أخرى فإنها يمكن أن تشكل لبنات بناء النظام النقدي المالي العالمي الجديد، الذي يجب أن يظهر عندما ستدق ساعة الحقيقة. وستدق هذه الساعة بأحد السيناريوهين: إما أن يطلق أقطاب الاقتصاد العالمي رصاصة الرحمة على صندوق النقد الدولي فيعلنون إفلاسه، وإما، وهو الأسوأ، أن ينهار الصندوق تلقائيا عبر مخاض مؤلم لبلدان ومناطق وللاقتصاد العالمي ككل.
مناطق العالم المختلفة بدأت في طرح البدائل الإقليمية لصندوق النقد الدولي. هناك فرضية تقول بأن الدور السابق للدولار الأميركي في الاحتياطي الذهبي للنظام النقدي – المالي العالمي بأسعاره التبادلية الثابتة التي كان عليها بين العامين 1945 – 6691 وتخلت عنه أميركا فيما بعد، يمكن أن يستبدل الآن بنظام جديد لأسعار صرف تبادلية ثابتة مؤسسة على ‘سلة عملات’ إقليمية أو غير إقليمية. مقترحات من هذا القبيل قدمتها مجموعة البلدان الآسيوية ‘ آسيان + ‘3 وبعض الأوساط المؤثرة في أوروبا الغربية. كما جرت نقاشات مشابهة وسط بلدان منظمة المؤتمر الإسلامي.
في بعض الأوساط الأوربية يتركز الاهتمام على خصوصا على مقترح حقوق السحب الخاصة (CDR) لصندوق النقد الدولي، وكذلك مشروع النظام النقدي الأوروبي بالشكل الذي طرحه في نهاية سبعينات القرن الماضي الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان ومستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية هلموت شميت. كما طرح الاقتصادي الشهير لاوروش في أواسط السبعينات مبادرة تأسيس بنك دولي للتنمية أثارت بالغ الحساسية لدى وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر ودوائره.
في الغرب يعترفون بأن جهود الرئيس الأميركي ف. روزفلت لإيجاد النظام النقدي لما بعد الحرب قادت إلى نجاحات كبيرة في أميركا وأوروبا. وقد ازدهر هذا النظام حتى العام .1963 ماذا حدث بعد؟ اضطر المستشار الألماني كونراد أديناور إلى الاستقالة، تم اغتيال الرئيس الأميركي جون كندي، أما الرئيس الفرنسي شارل ديغول فقد تعرض إلى ضغوط وصلت حد التهديد بالقتل، واستمرت حتى قبيل الانزياح الثقافي الذي رافق الاضطرابات الكبرى في فرنسا بين العامين 1967 و1969م.
غير أن الدولار الأميركي يوجد الآن في حالة رثة للغاية مقارنة بدولار الاقتصاد الأميركي الذي كان قائما أيام حياة الرئيس كندي. وهذا ما تتجاهله دعوات استمرار الربط بالدولار في منطقة الخليج. ومنذ مرحلة بوش أدرك عدد من الاقتصاديين أن هذه الإدارة لن تحول دون انهيار الدولار إلى مستويات خارج نطاق التنبؤ. وأدركوا في الوقت نفسه أن المقاومة الأكثر عنادا ضد إعادة بعث نظام أسعار الصرف الثابتة إنما تأتي من جانب أميركا ذاتها. ولهذه وغيرها من الأسباب يطرح هؤلاء الاقتصاديون مسألة أن تلعب ‘سلة العملات’ في النظام النقدي – المالي – التجاري الجديد الدور نفسه الذي لعبه الدولار في نظام الاحتياطي الذهبي لفترة سنوات 1945 – .1955
غير أن نموذج ‘سلة العملات’، كما نموذج حقوق السحب الخاصة (CDR) أو البدائل الأخرى لاتزال موضوع جدل قبل اعتمادها إقليميا أو في النظام النقدي المالي العالمي الجديد. وهذا موضوع بحث آخر.
صحيفة الوقت
11 مايو 2009