في حين انتقد كينز الليبرالية (أو الكلاسيكية) عدم اهتمامها بمشكلة البطالة، إذ اعتقد أنصارها أن كل شخص يستطيع إذا رغب أن يجد العمل الذي يناسبه، فقد ركز (كينز) على البطالة والنقد. فإذا كانت الكلاسيكية قد نظرت للنقد نظرة سطحية لا تتجاوز كون النقد مجرد ظاهرة ثانوية لا أهمية لها في العملية الاقتصادية فالناس لا يتبادلون نقوداً بل بضائع ببضائع وما النقد إلا واسطة، فإن كينز رأى أن ليس هناك شيئاً في الواقع الاقتصادي أهم من النقد. وعلى مستوى الرؤية الاقتصادية عاب كينز على الليبرالية (الكلاسيكية) افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد الذين ينبغي أن تُعطى لهم الحرية المطلقة في الفعل أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائياً بناءً على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم. بينما أثبتت الأزمة (1929-1933) التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي. هذا فضلاً عن تأكيد الكينزية من الناحية المنهجية على ضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستثمار وسعر الفائدة ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة. وكما نعلم فلقد أعادت أزمة عام 1973 الاقتصادية في البلدان الغربية الناجمة عن أزمة الطاقة (طفرة أسعار النفط جراء الحظر النفطي العربي للدول الداعمة لإسرائيل إبان حرب أكتوبر 1973)، لقد أعادت تلك الأزمة الاعتبار من جديد للنظرية الليبرالية (الكلاسيكية) على أيدي الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان وتلامذته وأتباعه من أنصار مدرسة شيكاغو النقدية، حيث خرجت الليبرالية (الكلاسيكية) في ‘حلة حديدة’ أُسميت بالليبرالية الجديدة (الكلاسيكية الجديدة)، اتسمت، كردة فعل قوية على الكينزية، بالغلو والمزايدة على الآباء المؤسسين للمدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (الاقتصادية الليبرالية)، آدم سميث وديفيد ريكاردو. حيث نادوا بالحرية الاقتصادية المطلقة وإخضاع كل شيء (الأسعار، الإنتاج، المداخيل) في الأسواق للعرض والطلب، وأن السوق سوف يتكفل بإحداث التعديلات (Adjustments) اللازمة لتحقيق التوازن اعتماداً على نظرية الخيارات العقلانية للناس (Rational Choice Theory)، حيث يقوم الأفراد بتعظيم طاقاتهم، والقصد طلب المستهلكين في النظرية الكلاسيكية الجديدة ومنحنى عرض قوة العمل، فيما تقوم الشركات بتعظيم أرباحها، وإن تفاعل طلب عرض وطلب الأفراد والشركات في السوق يؤدي إلى توازن الإنتاج والأسعار، ما يوضح بأن الكلاسيكية الجديدة تعول أكثر على مكونات الاقتصاد الجزئي (Microeconomics)، وعلى حاسية سلوك الأفراد. بيد أن أنصار الكينزية قاموا بمحاولة لإعادة الاعتبار لنظرية كينز بعد النقد الذي تعرضت له من أنصار الكلاسيكية الجديدة، حيث وافقوا على طروحات الكلاسيكية الجديدة في القول إن تصرفات الأفراد (Households) والشركات (Firms) تتميز بالعقلانية، إلا أنهم هنا اختلفوا عن الكلاسيكية الجديدة بالتأكيد أن نتيجة نتائج تفاعل العرض والطلب في السوق ليست دائماً سليمة وإنما يمكن أن تترتب عليها إخفاقات خصوصاً فيما يتعلق بالأسعار والأجور واستيعاب قوة العمل، ما يستوجب وجود دور إيجابي وفاعل (تدخلي) لإعادة التوازن في الاقتصاد الكلي من خلال تدخل الدولة باستخدامها أداة السياسة المالية (Fiscal Policy) على أيدي وزارة المالية أو الخزانة، أو أدوات السياسة النقدية (Monitory Policy) بواسطة البنك المركزي، بما يفضي إلى نتائج أكثر فاعلية على الاقتصاد الكلي من سياسة ‘السوق الرشيد’ التي تعتمدها الكلاسيكية الجديدة. ولكن علينا أن نلاحظ هنا أن الكينزيين الجدد أقل تفاؤلاً عن كينز نفسه فيما يتعلق بقدرة الأدوات الاقتصادية (الكينزية) على تأمين التوظف الكامل (Full employment). كما أن الكينزيين الجدد والكلاسيكيين الجدد قد التقوا ووجد التقاء رؤيتهم الاقتصادية تطبيقاته في عالم اليوم حتى إلى ما قبل الأزمة. حيث زاوج الكلاسيكيين الجدد الذين سيطروا على مواقع صناعة السياسة والقرار الاقتصاديين في الدول الرأسمالية المتقدمة – زاوجوا بين تركيزهم على سياسات الاقتصاد الجزئي وأدوات الاقتصاد الكلي للكينزية لينتجو تركيبة نيوكلاسيكية توفيقية. ولكن مع أهمية الإشارة هنا إلى أن الكلاسيكيين الجدد قد جعلوا الأصل في سياساتهم الاقتصادية، الحرية المطلقة للأسواق ولمكونات الاقتصاد الجزئي، من إنتاج وأسعار وأجور، فيما تركوا حيزاً ضيقاً فقط للسياسات الكينزية يعودون إليه كلما أربكتهم حركة الأسواق المنفلتة. ولذلك عندما يسال الحبر وتتوالى الأحاديث اليوم حول ارتفاع أسهم الكينزية من جديد وترشيحها للعب دور قيادي من جديد في الاقتصاد السياسي للرأسمالية العالمية على خلفية فشل روشتات تطبيقات الـ ‘نيوكلاسيكية’ الذي كشفته الأزمة، فإن ذلك يحتاج إلى تدقيق. فالاحتماء والارتماء فجأة في أحضان الماركسية ووصفاتها العلاجية لأسقام الرأسمالية، على النحو الذي فعله جون جينز نفسه مستغلاً ردة الفعل العنيفة ضد تطبيقات الرأسمالية بنسختها الكلاسيكية (الحرية الاقتصادية المطلقة) جراء أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، من توسل التأميم وعودة الدولة وأجهزتها لتسلم كامل زمام أمور الإدارة الاقتصادية الكلية – كل ذلك لا يرق إلى مستوى العودة للكينزية (التي سرقت أفكار كارل ماركس وفريدريك انجلز خصوصاً منها المدونة بحثاً في ‘رأس المال’ بأجزائه الثلاثة)، وإنما هو التفاف بارع عليها.
صحيفة الوطن
10 مايو 2009