المنشور

اليابان: تجربة الرأسمالية الخاصة (1)

حين نقرأ بعض الحيثيات المفيدة التي يقدمها مؤلفون عرب حول مسار التجربة اليابانية، وخاصة كيفية الانتقال من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي، فإنهم يضعونها في إطار المعجزة، الخارجة عن قوانين الانتقال نحو الرأسمالية في الشرق، لكونهم لا يقرأونها ضمن قوانين الانتقال العامة للرأسمالية الشرقية ذات الخصائص المختلفة عن الرأسمالية الغربية.
لقد قفزت اليابان نحو نمط الرأسمالية الغربية الخاصة، خلافاً للرأسماليات المعرقلة بتدخل الدول الشمولية في الشرق، بل على العكس قامت الطبقة الحاكمة اليابانية بتوجيه قوى الأغنياء نحو تلك الرأسمالية الصناعية الخاصة، وهو جانبٌ سياسي فريد نشأ بسبب صغر اليابان تجاه الدول الكبرى المحاصرة لها التي تريد التهامها كالولايات المتحدة وروسيا والصين.
لقد عملت الطبقة الحاكمة التي قلصتْ نفسها إلى أسرة صغيرة حاكمة، مزيلة طبقة الإقطاع الكبيرة وموجهة إياها نحو الاستثمارات التجارية والصناعية.
لكن قيادة الامبراطور لهذه التحولات لم تكن دفعة واحدة بل جرى تذويب الطبقة الإقطاعية على مراحل:
“أطاحت القوى السياسية بالشوجون (قادة الجيوش) وانتقلت مقاليد السلطة للإمبراطور من جديد بعد ان كانت في يد مجموعة من نبلاء البلاط استأثروا بها، نظراً لصغر سن الامبراطور مايجي، وقد كان عليهم باعتبارهم قوة جديدة ان يواجهوا المشكلات الملحة وعلى رأسها الزحف الغربي على بلادهم والفساد المالي، لأن مواجهة الاطماع الاوروبية في اليابان تتطلب قاعدة اقتصادية صلبة، بعد ان بدأت السلطة الحاكمة في اليابان بالعمل على تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، حيث قامت بإجراء العديد من التعديلات والقوانين التي تنظم الطبقات، تمهيداً لإلغاء النظام الاقطاعي، وكانت البداية عام 1869 حيث وضعت تصنيفاً جديداً للطبقات جعلت بمقتضاه ارستقراطية البلاط وحكام المقاطعات طبقة واحدة باسم النبلاء، وقسمت الساموراي الى مستويين: ساموراي كبار، وساموراي صغار. وفي عام 1870 ادخلت الحكومة تعديلات على أوضاع الطبقة العاملة فصار من حقها بمقتضى هذه التعديلات اتخاذ ألقاب عائلية، وسمحت لأبنائها في العام التالي بالتزاوج مع ابناء الطبقة العليا. كما سمحت الحكومة للنبلاء والساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والحرف. وفي عام 1872 أعادت الحكومة تقسيم القوى الاجتماعية الى ثلاث طبقات: هي النبلاء، والساموراي و”الهيمين”، والأخيرة تضمنت العامة وصغار الساموراي القدامى والمنبوذين وأصبحت جميع الطبقات بعد ذلك – نظريا – أمام القانون سواء، وقد اضطرت الحكومة عام 1872 الى ان تسن قانوناً يجرم الاسترقاق ويحرم الاتجار في الرقيق.”.
كان إبعاد الطبقة الإقطاعية الكبيرة العدد عن الدخول الحكومية مهما لأجل إبعاد أجهزة الدولة عن التبعية لطبقة من الطبقات، أي أن تكون محايدة بشكلٍ نسبي، بين الطبقتين الكبريين: الطبقة الإقطاعية الآفلة، والطبقة الرأسمالية الصاعدة، فقد أدركَ الامبراطور ان المستقبل للأخيرة وللصناعة وللحداثة، وهو بحاجةٍ إلى القوى العاملة الحديثة وإلى العلوم، ولابد بالتالي من الانفصال عن إرث الماضي الإقطاعي، ومن جعل الصناعة بؤرة الحياة الاقتصادية، ومن تحرير الفلاحين والنساء، وتشابك ذلك المنحى الاقتصادي بالشعور القومي الاستقلالي، بل الاستعماري التوسعي كذلك، الذي تحول فيما بعد إلى عدوانية خارجية.
ولنلاحظ كيف كانت اليابان مربوطة بوشائج متخلفة مع علاقات الإنتاج القديمة، كالعبودية، وعلاقات اجتماعية متخلفة كثيرة، لكن جهاز الدولة المركزي استقل عن الطبقات القديمة، وحسم الخيار الحضاري باتجاه مماثلة تقدم الغرب في جوهره، وهو التصنيع الواسع.
“وقد أدى إلغاء النظام الطبقي وتطبيق نظام المعاشات واستبدال نظام سندات حكومية به الى تجريد طبقة الساموراي بشكلٍ كامل من امتيازاتها المادية، ورفع عبئاً كبيراً كانت ميزانية الدولة تتحمله كل عام قامت بتوجيهه للتنمية”، (السابق).
إن خلق التراكم البدائي في التجربة اليابانية كان على الطريقة السوفيتية، بأن تـُجلب الفوائض المالية من الطبقات المثقلة بالاستهلاك والبذخ أو الموظفة في الزراعة، وأن تصب في الصناعات الثقيلة والخفيفة. لكن من دون أن تنتقل الثروة المُصادرة وعمليات التراكم المختلفة من ضرائب وغيرها، لتشكيل رأسمالية حكومية على الطريقة السوفيتية، بل أن تكون لعمليات التوجيه المركزي نحو المجتمع الرأسمالي من خلال قيادة الامبراطور.
وهنا فروق كبيرة بين هذه القيادة وما جرى في بعض دول الشرق، فكثيراً ما تـُقارن عملية القيادة اليابانية بمصر في عهد إسماعيل باشا خاصة، كما يقول عارض الكتاب: “يتحدث الكتاب في فصله الثالث عن حركة التصنيع ونمو الرأسمالية في اليابان، برصدها في عهد مايجي بشكل يذكرنا بحركة التحديث التي حاول اسماعيل باشا في مصر أن يقودها، وبالأسلوب نفسه، حيث لجأ كلٌ منهما إلى الاستدانة من بيوت المال الفرنسية والانجليزية لبناء وتحديث بلاده، وكانت القروض أداة كل منهما لاقامة مشاريعه التي رآها مناسبة لنقل بلاده الى مرحلة التطور والتقدم الصناعي التي تعيش أوروبا في ظلها”.
إن عمليات الاستدانة والتثقف من الغرب والقيام بإجراء تغييرات في الريف لم تكن متماثلة مع نظام إسماعيل، لفارق جوهري هو طبيعة الدولة اليابانية في هذا الوقت التي اختارت التوجه نحو الاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، وأن تكون منها بل من قياداتها، في حين ظل إسماعيل في دائرة النظام الإقطاعي، وتغدو الاستيرادات المجلوبة من الغرب لديه استيرادات جزئية، تحديثية فوق جسد متخلف تقليدي.
في حين توجهت الطبقة الحاكمة اليابانية في تلك الأسرة الصغيرة الامبراطورية إلى إزالة الإقطاع بكل تشكيلاته وتداخلاته في الحياة الاقتصادية والدراسية، فجمعت التراكمات المالية لتوسيع الصناعات، وجعلت الأرياف مُلحقة بها، ولهذا كانت ثمة عملية قسوة شديدة موجهة للريف، أدت إلى حدوث ثورة فيه، نظراً لهذا الجلب الحاد لفوائضه من أجل الصناعة البؤرة الكلية التي توجه الدولة المداخيل نحوها.
هذا ما مثل لستالين تجربة مهمة سوقها فيما تلا تحت شعار الاشتراكية.
وفي حين انتهى عهد إسماعيل وخلفائه من بعده بتراكم الديون ظهرت الفوائضُ النقدية الكبيرة في اليابان.

صحيفة اخبار الخليج
10 مايو 2009