المنشور

كابوس جائحة انفلونزا الخنازير

احتلت أخبار انفلونزا الخنازير موقع الصدارة في وكالات الأنباء والصحف اليومية ’ جنبا إلى جنب مع أخبار العنف والاقتتال والأزمة المالية العالمية ’ التي لم تضف إليها مسألة أنفلونزا الخنازير إلا عبئا جديدا إلى قائمة الأعباء الأخرى ’ فمن أولى مؤشرات أزمة الخنازير أنها ستكون مؤثرة اقتصاديا على قطاعي السياحة والسفر وعلى الموردين والمصدرين للحوم الخنازير ’ خاصة الدول التي تعني بتلك الحالة الصحية بصورة جادة ’ ولكن بطريقة أكثر تأن ودراسة ’ وليس كما هي الطريقة المصرية المستعجلة ’ حيث ارتفعت أصوات منادية بضرورة تصفية الخنازير دون انتظار ’ وكل ما فعله القرار هو بتعويض مربي الخنازير لمواشيهم التي تم مصادرتها ’’ قانونيا ’’ بحجة الحفاظ على صحة الناس من ذلك الوباء ’ غير اننا لاحظنا في الحالة المصرية – والتي لم نر مثلها في أي مكان آخر !! – إذ لم تسارع أية دولة بقتل خنازيرها أو تجميد لحومها لكونهم يدركون ان تسمية أنفلونزا الخنازير ليست تعني بالدرجة الأولى إن الخنازير هي وحدها المصدر الأساسي للمرض متناسية الإنسان ’ وهو الكائن الذي ليس بإمكاننا تصفيته على طريقة الشوارع العراقية أو الأفغانية أو الباكستانية ’ حيث يموتون الناس دون قيمة أو حساب . وبما ان البشر لا يمكن إنهاء حياتهم بسرعة عاجلة كما هي الطريقة المصرية وتعويضهم أيضا ’ بل وتجميدهم في الثلاجات ’ فان الانتباه من انتقال الوباء من الإنسان للإنسان هو الأكثر خطورة داخل المجتمع ’ وعلى هذا الأساس تصبح الجوانب الوقائية هي العملية المثلى في المجتمع بدلا من الدخول في أفلام الرعب والعويل . ولحسن الحظ إننا نعيش في العقد الثاني من الألفية الثالثة ’ حيث صار لدينا كل أشكال اللقاحات والأدوية والمخازن اللازمة بما فيها تلك الأدوية التي تروج لها شركاتها عمدا وقصدا ’ كونهم يدركون قيمة المبالغة لحقيقة الحالة ’ ولقيمة دفع المؤسسات والناس لشراء أدويتهم – المحتمل نفاذ تاريخها أيضا – ففي ظل الكوارث المضخمة من جراء هلع الناس وجهلهم وجهل شخوص في الإعلام والصحافة بمسؤولية أقلامهم ’ في نشر وباء مواز له اسمه الهلع ’’ . وبما ان ’’ أنفلونزا الهلع ’’ يتحول بحد ذاته جائحة مستمرة مع كل مرض جديد وطارئ وخطير ينتشر أو ظاهرة غامضة على الرأي العام تفرض نفسها ’ فان المتصيدين والمستهدفين للجهل وأصحابه وضحاياه ’ هم أكثر الناس كسبا من وراء لعبة المبالغة ونشر لعبة الرعب . وكيف نلاحظ عملية نشر الرعب مع كل حالة غريبة وجديدة ؟ ’ كان ذلك مع الانثراكس ومع جنون البقر وأنفلونزا الطيور والايدز والأسهم والأزمات المتعددة والتلويح بخطورة برميل من أسلحة الدمار الشامل يسرقها الإرهابيون دون علمنا ويتمكنون من صنع قنبلة نووية. هذا الاستغلال المستمر لوعي الناس المحدود وخداعهم صار لعبة موازية للعبة الترويج لكل مشروع سياسي أو مالي يستهدف من خلاله الأثرياء وأصحاب المصالح استثماره في اللحظة المناسبة. ولكي لا يفهمنا القارئ خطأ كالعادة ’ فان ما نعنيه هو ان هناك مؤسسات منظمة تستفيد من كل حالة ’ فتستثمرها لصالحها ولديها محيط كامل من الناس يقومون بتلك التوليفة المناسبة ابتداء من الأقلام الصحفية وانتهاء بمعلني المبيعات والتسويق ’ وعلينا في كل هذه الحالات توظيف عقلنا بشكل هادئ ’ والعودة لأهل الاختصاص والاستعانة بهم وهو انسب تصرف لكل حالة أو ظاهرة . ومن خلال متابعتي اليومية للأخبار ومواقع الانترنيت ومصادرها المتنوعة ’ الخبيثة والمفيدة ’ بما فيها وكالات تحسب نفسها محترمة ’ إذ وجدت ان الأرقام التي تم تقديمها في البداية تختلف عن مساراتها اليومية ’ بل ونشهد كل يوم متغيرات غريبة اقل ما يمكن وصفها هو إما بالمتشوشة أو المشوشة ’ وهي تخدع أيضا الصحافة والصحف التي تستمد منها معلوماتها ’ فتنشر أخبارا لا تتميز بالمصداقية والدقة ’ بل ونجزم أنها كيدية وتتقصد التكذيب على الناس بهدف دفعهم نحو محلات الأدوية والركض بأسرع ما يمكن نحوها ’ خاصة في الدول التي أعلنت عن وجود حالة الإصابة . وبدلا من الانتظار والاستعانة بمصادر رسمية في بلدها نراها تتخبط هنا وهناك بحثا عن مصل المعجزة يحميها من كابوس جائحة أنفلونزا الخنازير . ومن استفادوا من مفردة الخنازير جماعات متعددة الأطياف ’ خاصة المتنافسين في السوق والأطباء الأقرب إلى مسالخ اللحوم . والمفيد في حالتنا الجديدة ’ حالة أنفلونزا الخنازير ’ خاصة في مدن الفقراء والبؤس ’ اكتشافنا كم هي المأساة الكامنة في تلك الحياة المدقعة ’ إذ تلمسنا بكل وضوح ان الإنسان لا قيمة له ’ فلا مسافة بينه وبين البهائم ’ ولا قيمة للحضارة والنظافة والتعليم في حياته . وقد عكست كل المعطيات ان الفيروس قادم من مناطق فقيرة كالمكسيك بل وناس فقراء كالمكسيكيين ’ حيث يعيش الناس مع طيورهم وحيواناتهم فلا توجد مسافة فعلية ولا جدران عازلة بينهم وبين بهائمهم ’ بل ولا توجد رقابة صحية فعلية تؤهل الفرد والمجتمع في أن يحمي نفسه عندما تفاجئه كارثة صحية مفزعة فعلا . ولكي تواجه المكسيك المحنة بصورة فعالة ’ فان أفضل خيار وجدته حكومتها هو أن تمنح الشعب عطلة لمدة خمسة أيام تبدأ من أول مايو ’ مناشدا رئيس الجمهورية شعب المكسيك بالالتزام في بيوتهم فهو خير وأفضل مكان لا تنتقل به العدوى ’ لتؤكد لنا المكسيك – مصدر المشكلة – ان مصدرها الأساسي هو الإنسان وليست الخنازير ’ بل ولم نر أي إجراء فيها يدعو ’’ لإعدام ’’ الخنازير المكسيكية بالطريقة المكسيكية التقليدية ! فيما راح مجلس الشعب المصري وبكل هلع يعلن قرار الإعدام متناسيا بؤس أصحابها . والمشكلة ليست في إعدامها وتجميد اللحوم ولا التعويض وإنما بتوفير العمل فيما بعد لتربية الخنازير وتوليدها وتكاثرها ’ وهذا ما جعل أصوات أصحاب الخنازير ’’ ضحايا ’’ يبكون ويحتجون ضياع ثروتهم سدى ! وصارت حياتهم كابوسا من جراء تلك الأصوات الفزعة الهلعة ولأهداف غير معلنة بحجة الحفاظ على صحة الناس !
 
صحيفة الايام
10 مايو 2009