ينطوي افراج المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري عن الضباط الاربعة الموقوفين على ذمة القضية كل من: اللواء جميل السيد (المدير العام السابق للأمن العام) والعميد ريمون عازار (المدير العام السابق لمخابرات الجيش) واللواء علي الحاج (المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي)، والعميد مصطفى حمدان (القائد السابق للحرس الجمهوري).. ينطوي هذا الافراج على دلالات ودروس مهمة على الاصعدة المحلية والعربية والدولية، بصرف النظر عن التجاذبات السياسية التي تشهدها الساحة اللبنانية الداخلية الآن حول هذا الحدث، والتي زاد من سخونتها صدور القرار عشية معركة الانتخابات النيابية والمنتظر ان تكون من اكثر الانتخابات اهمية في تاريخ تقرير مصير ومستقبل لبنان السياسي المنظور منذ اول انتخابات نيابية شهدها لبنان بُعيد استقلاله في أوائل اربعينيات القرن الماضي، وحيث يحاول كلا التحالفين الكبيرين المتصارعين: تكتل 14 آذار الحكومي، وتكتل 8 آذار المعارض، توظيف الحدث لصالحه ولاسيما الطرف الأخير بقيادة حزب الله ذي القاعدة الجماهيرية العريضة في معظم مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية للعاصمة ذات الكثافة السكانية.
ومع ان التحليلات السياسية اللبنانية والعربية تركزت في تناول أبعاد انعكاس قرار المحكمة على التجاذبات والاصطفافات المحلية، وعلى السيناريوهات المتوقعة لمسار المحكمة، وعن المتهمين الحقيقيين المجهولين بعد الافراج عن الضباط المتهمين الأربعة، إلا ان هذه التحليلات غاب عنها تناول دلالات الحدث السياسية الكبيرة الأعمق في مغزاها لبنانيا وعربيا ودوليا:
فأولا: ان صدور قرار المحكمة بالافراج عن المتهمين الضباط الأربعة إنما يبطل نظرية المؤامرة العربية الصماء بأن أي محكمة دولية تتشكل للتحقيق في قضية توجه فيها أصابع الاتهام الى رموز أو اطراف عربية مستهدفة من الولايات المتحدة والغرب أو في حالة عداء لحظة تشكيل المحكمة هي بالضرورة غير نزيهة واحكامها معروفة سلفا لصالح الولايات المتحدة والغرب.
ليس معنى ذلك ان كل محكمة دولية هي بالضرورة بمنأى عن محاولات التجاذبات بين القوى الدولية لمحاولات توظيفها أو تسييسها كل لصالحه لكن تبقى الساحة الدولية بمثابة حلبة من حلبات معارك “فن الممكن” الذي تتصارع عليه مختلف القوى ولاسيما المحاكمات الطارئة كمحكمة قضية اغتيال الحريري.
وبهذا المعنى فإن قرار المحكمة الدولية لا يدلل على امكانيات صدور قرارات نزيهة ضد إرادة الغرب، بل يفضح القرار بعض الرؤساء العرب المتطيرين من مجرد اتهامهم في أي قضايا جرائم الحرب وحروب الإبادة من مجرد المثول أمام محكمة الجنايات الدولية والدفاع عن أنفسهم دوليا من داخلها.
ثانيا: إن قوة المرافعات الاعلامية التي أبرزها كل من الضباط الاربعة في الدفاع عن انفسهم بعد سويعات معدودة من الافراج عنهم، بصرف النظر عن مدى دقتها جزئيا او كليا، انما تعكس تقاليد المناخ الديمقراطي في لبنان العريقة، ومن ثم ثقتهم المطلقة ليس ببراءتهم فحسب، بل بممارستهم حقوقهم الكاملة في حرية التعبير من دون أي وجل من سوقهم مجددا للاعتقال بسبب ممارستهم هذا الحق، الأمر الذي لا نجد له وضعا مثيلا في سائر الدول العربية التي تطغى عليها في الغالب الأجواء والتقاليد الشمولية، وحيث غالبا ما يخرج المفرج عنهم سياسيا وهم مثبطون أو حذرون جدا في تصريحاتهم الصحفية حتى لو كان الافراج قد جاء بمقتضى احكام قضائية بالبراءة، هذا ما لم يلوذوا اصلا بالصمت والانكفاء على ذواتهم في منازلهم.
ومن نماذج هؤلاء المعتقلين خذ – على سبيل المثال لا الحصر – التصريحات الاعلامية التي يدلي بها عادة من يتم الافراج عنهم احيانا من معتقلي الرأي السياسي من قوى ورموز سياسية كبيرة في دولة جمهورية مجاورة للبنان، هذا إذا ما سمح لهم اصلا بأن يخاطبوا وسائل الاعلام المحلية والعالمية بحرية تامة.
ثالثا: كان واضحا من شهادات وتصريحات الضباط الأربعة المفرج عنهم كل على حدة ان ظروف الاعتقال والسجن الانسانية كانت جيدة على نحو لا تعرفه سجون معظم الدول العربية على اختلاف انظمتها السياسية. صحيح ان من العوامل التي لربما ساعدت على توفير هذه الاجواء الحقوقية الانسانية الجيدة داخل سجن “رومية” اثناء توقيفهم رتب الضباط الاربعة الرفيعة فجميعهم رؤساء لأكبر الاجهزة الأمنية الرئيسية في البلاد، وصحيح ايضا ان ثمة رقابة قضائية دولية على احوال توقيفهم بما ان التوقيف جرى بمقتضى قرار قضائي دولي، إلا ان من الصحيح أيضا ان تلك الاجواء الاعتقالية ما كانت لتتوافر لو لم يكن في لبنان نظام ديمقراطي، بغض النظر عن صيغة المعادلة الطائفية التي يقوم عليها هذا الكيان، وبغض النظر أيضا عن اجواء الاصطراعات السياسية المتفجرة المحتدمة التي ما انفك يعيش في ظلها منذ اكثر من 35 عاما.
ولعل عشرات الاقلام الجميلة والمتنوعة الماركات التي نثرها جميل السيد على الطاولة في حواره مع قناة “المنار” في اليوم التالي من الافراج عنه والذي استغرق اكثر من ساعتين ليدل بها امام المحاور على ما كتبه من مذكرات عديدة اثناء توقيفه لتدلل بدورها – الاقلام – على جانب من تلك الاجواء الاعتقالية الايجابية التي عاش في ظلها أولئك الضباط الاربعة طوال ما يقرب من 4 سنوات والتي يفتقر إليها عادة المعتقلون السياسيون في السجون العربية.
رابعا: ان سرعة امتثال القضاء اللبناني لقرار المحكمة الدولية باطلاق سراحهم تحسب ولو نسبيا لصالح هذا القضاء لا عليه، وان الذين يشككون في نزاهة القضاء اللبناني ينسون استحالة ان يكون أي “قضاء” في الدنيا تعصف ببلاده صراعات مريرة مزمنة كالقضاء اللبناني ان يكون بمنأى تام كامل عن هذه الأجواء المريضة العاصفة، والا لكان القضاء خير من يحتكم إليه الفرقاء لتسوية الصراع المحلي.
صحيفة اخبار الخليج
6 مايو 2009