تبدو الديمقراطية عصية المنال في الدول العربية. فالحكومات تريد أن تواصل دورها الاحتكاري للموارد الاقتصادية، والنيابة عن رجال الأعمال ونسائها وعن الهيئات المدنية والجماعات الوطنية، في إدارة كل شيء.
لاتزال النظرة بأن الوزارات هي كل شيء، هي التي تقوم بالمشروعات، وتحتكر موادَ الإنتاج المهمة، تاركة للآخرين الفتات.
وحين جاءت للديمقراطية فتحت الأبواب للقوى المذهبية السياسية تنطلق في كل الساحات، وتفرض مفاهيمها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهذا يحدث بسبب الاختلافات الشاسعة بين هذه القوى المذهبية وإرث الصراعات المتجذر فيها، وإمكانية إدارة مسرح العرائس الشكسبيرية حيث الشخصيات ذات العباءات واللحى الكثيفة تأتي لتجسد صراعات قديمة، وتحلق في سماء العروض المسرحية بسيوفها الخشبية ونداءاتها الغريبة.
تتضاربُ هذه القوى في لعبة شد الحبال والنيران أحياناً فوق أجساد المجتمعات العربية، والحكومات تصرخ ساخرة: “تريدون ديمقراطية؟! هذه هي الديمقراطية”.
وتطرح تلك الجماعات أسئلة وتفجر قضايا تعود لألف سنة خلت، وتشكل جوا محافظا رقابيا بوده لو يتغلغل في قلب كل مواطن ويفتشُ صدرَهُ، ويلاحقُ كلَ مقيم ليعرف ماذا يفعل، ويدقق في المشروبات، والأكلات، والأسرار، ويحقق في دين الكائن وكلما قال إنه مسلم شكك فيه، وكلما دافع عن الإسلام وضعه تحت مراقبة أشد، وإذا كتب الباحثون والأدباء عن شخصيات إسلامية نضالية عريقة حققوا في كل كلمة، ووضعوا كتبهم على الرفوف المغبرة من سواد السنين التي تلتهم الأفكار والورق ولا تشبع.
لم يكن ثمة أفضل من هذه الأجواء لتقوم الحكومات العربية بإجراءاتها الأخرى، مثل إغلاق المواقع الإلكترونية، فكلما فتش الباحثون عن انتقادات وجدوها محجوبة بينما سيل المدائح مفتوح.
وخاصة وزارة الثقافة والإعلام البحرينية فقد تفوقت على مثيلاتها من وزارات الإعلام العربية ربما في هذا المجال أكثر من غيره، حيث اخرست كل المواقع خاصة التي فيها دراسات وتحليلات للواقع الاجتماعي، مبررة ذلك بمواقع الشتائم المكروهة من الغالبية من المثقفين، وحين ترى المواقع الكويتية على سبيل المثال تجد أن أصحابها يقولون ما يشاءون من مختلف التيارات والجماعات وبمختلف اللغات رديئها وعظيمها.
كذلك فإن نشر الجو المحافظ الصناعي يتم بشكل مقطع، ومقنن، حسبما يشتهي القاطعون والناشرون، فهو أمرٌ اقرب للاستعراض و”الشو” الإعلامي، أكثر منه نضالا جديا ضد الرذيلة، فمن يأتي للبلد لا يتسلل عبر الشواطئ، أو ينزل بالمظلات من الأجواء الحارة، بل يدخل موقراً من المطار والكل يعرف ماذا يريد وأين يتجه.
والنضال الجدي ضد الرذيلة لا يحتاج إلى زفة إعلامية بل إلى نضال حقيقي لرفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية، والفضائل لا تأتي عبر الضغط على أزرار، بل هي تـُنتجُ عبر سنين طويلة، والرذيلة كلما كانت في العلن كانت محاربتها أنجع، ولم يضعْ العالمُ الغربي التحديثي رؤوسهُ في الرمال بل كشفَ عن جراحهِ ومشاكله وآثامه، وعبر سنواتٍ طويلة، ومع تغيير مستوى المعيشة ورفع ثقافة الناس، ونشر الكتب، وليس الهجوم عليها، تمكن من أن يجعل محال الرذيلة وأشرطتها وأفلامها مخصصة لاصحاب الفضائل من الزوار الشرقيين، ومحاصرة في مناطق معينة يؤمها في الكثير الغالب أصحابُنا من الملل الزاهدة في متع الدنيا.
نعم حاولتْ القوى الدينية المحافظة الغربية أن تقمع كل هذا، وذهب مفكرون وبشر ضحية لسياساتها، وقامت بفرض الفضائل بأدوات التعذيب، والعزل والتشهير والعقاب، لكن من دون جدوى، فالرذائلُ المخفية كانت أعظم وأخطر من الرذائل المرئية، ومضتْ لمواد أخطر، ولممارساتٍ أبشع.
إن الدور الأبوي الأخلاقي من قِبل الدول والجماعات السياسية لم يعدْ مقبولاً، فالناس تقول لهم أفرغوا جيبوكم إن كنتم صادقين.
والسياسات الأخلاقية الرفيعة تلك لا تـُطبق إلا على من ليس لديه واسطة، ومن هو أقل رأسمالاً وطوفته التجارية نازلة.
لم يعدْ الناسُ أطفالاً بحاجة إلى خطباء يعلمونهم ما هي الرذائل، وكل إنسان له رغباته وظروفه وحياته الخاصة، التي لا يحق لجهات عليا أن تتدخل فيها، وتتأكد مما يشرب ويأكل، وكيف ينام، وكيف يصحو. والتحكم في هذه النفوس وجعلها تمشي على سكك حديدية مصنوعة من الأوامر أمر مستحيل فقد جربته الشعوب طوال قرون التاريخ المديدة من دون جدوى.
هذه قد تكون دولة يحكمها جنرال يريد من الناس أن تمشي على عجين لا “تلخبطه” من الصباح حتى موعد النوم.
ذهبتُ إلى دولة عربية مانشيتاتها ثورية صاخبة، وترفضُ الانحلالَ والرذيلة، وتضربُ وتحبسُ، فوجدتُ الكثيرين من المثقفين سجائرهم من حشيش، وموظفي وزارة الثقافة هم الذين يمتلكون ما شاءوا من زجاجات.
إن المناخ المحافظ هو وسيلة للتدخلات السياسية والاجتماعية، والتحكم في البشر، وتوسيع القيود وتضييقها حين تشاء السلطات.
لابد من التثقيف المستمر بخطورة الخمور والادمان والعلاقات غير السوية وغير النظيفة، وتوجيه الناس للنظافة والاعتدال، والتحكم في غرائزهم التي غالباً ما تخرج عن السيطرة، لكي تظهر الاقتناعات من الدواخل، وكي يطور البشر سلوكهم.
إن هناك حشوداً كبيرة من المختلفين والمتخلفين والمراهقين والمأزومين والمحطمين والمفلسين، والغرباء الذين لا علاقة لهم بأديان المجتمعات التي يعملون فيها، يذهبون لما هو رخيص وممتع في نظرهم، وهناك قوى استغلال هائلة تقدم البدائل الأسوأ كالمخدرات التي تنتشر بتوسع كبير مع الانغلاق والتخلف وكثرة القيود.
ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الذكاء ليقارن بين دول مفتوحة متطورة ثقافيا ودول مغلقة ومتحجرة ليرى الفروق الكبيرة في الأخلاق والمعاملات وعادات الحياة المختلفة!
صحيفة اخبار الخليج
6 مايو 2009