المنشور

الكراهية والحلم في الصراعات الإنسانية

في الحرب الباردة ظلت كل الحركات التحررية مقبولة ومشروعة ’ وقد كان العنف المشروع حقا من حقوق كفاح الحركات التحررية ’ وقد فرضت حركات تحرر عنيفة ومسلحة نفسها ’ وجلست على طاولة الأمم المتحدة تفاوض ’ فيما كانت القذائف مستمرة والمواجهات متواصلة ’ كما هي تجربة الفيتكونغ مع الفرنسيين وفيما بعد مع الأمريكيين . وعندما نشأت حركات قومية واثنية في البلد الواحد ونشب الصراع الدموي ’ والذي كانت تغذيه الدول العظمى بالمال والسلاح ’ كان صوت تلك الحركات الانفصالية عاليا ومصرا على حق تأسيس دولته المستقلة ’ كما هي السياسات القائمة وبإشراف الأمم المتحدة في التجربة اليوغسلافية ’ حتى فيما بعد انهيار الحرب الباردة . وقد اندلعت نزاعات عرقية عدة في القارة الأفريقية وأوروبا الوسطى والشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفيتي السابق ’ فتم تكوين منظمات وقوى سياسية تم تمويلها بالأسلحة والمال ’ فما كان من الأمم المتحدة إلا دعوتها ودعمها داخل تلك الأروقة بأنها شعوب لها حقوق اثنية ومن حقها بناء دولتها وحلمها القومي . ولو نقلنا عيوننا للمشهد السياسي خلال العقدين المنصرمين لوجدنا أمثلة عدة ’ ولكن ما حيرنا إننا أمام معادلات غريبة ’ إشكالية ’ ومتناقضة في تبايناتها الشرعية ’ فما يتم تحقيقه ودعمه لتلك القضية يتم رفضه لهاتيك ’ ويصبح الحق الشرعي لأية قومية واثنية – تناشد العالم بحق الانفصال – ’ أمرا مرفوضا وحقا لا يمكن قبوله ويتم التنازل لتلك الدولة التي ينشأ فيها النزاع القومي ’ والأعجب من ذلك وجدنا إن تلك الموازين بدأت تفرض نفسها كقانون للقوة وليس للحق ’ بفرض الشروط والاتهامات على حركات تحررية ’ بأنها إرهابية فيما يتم الطبطبة والصمت عن كل ما تمارسه إسرائيل علانية إزاء الشعب الفلسطيني والمنطقة. وما نراه اليوم فاضحا في مؤتمر عن العنصرية في دربان ’ هو ذلك البيان الختامي حول ’’ تنظيف ’’ يد الدولة العبرية من دم الآخرين ’ فيما راحت هي وحدها توزع بطاقاتها ودعوات حفلاتها الناعمة لمن تشاء من الأصدقاء . ولكن بما إن عالم السياسة جسد عاري مغطى بثياب كثيفة قابلة للارتداء والإزاحة ’ فان خلف الكواليس لا يمنع تلك الدول العظمى التي صوتت على قائمة المعنيين باتهامهم بالإرهاب ’ نجدها تجلس معهم صمتا وتدعوهم علانية للحوار ’ تحت حجج كثيرة واهية ’ ولدينا امثلة كثيرة وحية أيضا ’ فهناك حوار سوداني – سوداني في فرنسا وهناك حوار بين الحكومة البريطانية وحماس وحوار بين حزب الله والأروقة الصامتة في نيويورك ’ وحوار بين الشيطان الأعظم مع احد بلدان متهمة بكونها محور الشر . فإذا ما كانت تلك الأصوات العالية تعلن الكراهية ’ وتعود من جديد ترقص لنا رقصا فاضحا يفزعك بأن الحرب النووية ستندلع بعد أيام ’ فتضع يدك على قلبك كون منطقتك تقع بين تلك الأهداف ’ وبأن إسرائيل لابد وان تدمر المفاعل النووية الإيرانية في هذه اللحظة إن لم تفعل الولايات المتحدة أمرا بشأنها فورا . فيتحرك الرئيس اوباما ’ معلنا بصوت صريح انه لن يسمح لإيران بان تمتلك مفاعلات نووية ’ مع انه في أيامه الأولى كان كالحمل الوديع وأكثر ميلا للجوانب الإنسانية والاجتماعية والسياسية العادلة . من جديد يحاول العالم حمل الكراهية والحلم الإنساني معا في يد واحدة دون محاكمة أي واحد منهما حكما عادلا. ومن هنا يبدو واضحا محاولة إرضاء الأتراك والأرمن في تلك المعادلة التاريخية القديمة حول المذابح والاتهام الفاضح ’ وهذا الاتهام وحده يزعج إسرائيل من جهة وينعش قلبها من جهة أخرى ’ مما جعلها مسرعة تحرك كل آليتها الإعلامية في العالم لتأكيد أرقام المحرقة’ لكي لا يتحرك خصومها العرب والمؤيدين بقوة مزعجة ’ فكان مؤتمر العنصرية منحازا لإسرائيل . وما زال الخبراء والباحثون المدفوع لهم أجرا يتجادلون حول زيادة جرعة الأرقام وزيادة الاصفار فصارت المحرقات والمذابح أرقامها أسطورية ’ فيما تجادل تركيا على إن الرقم غير صحيح ويؤكد الأرمن إن الرقم اقل بكثير ’ ’ متناسين أن الحقوق الفعلية داخل دولة واحدة متنوعة الأعراق والأديان ’ وبحاجة إلى تعديلات دستورية تضمن حقوق الطرفين دستوريا لكي تخمد تلك الكراهية ’ ويتم التغاضي بالفعل عن مسألة الانفصال وإيقاف كراهية الدم والقبول بالعيش المشترك ’ من اجل وطن مختلف يقدم لكل مواطنيه حقوقا متساوية وفرصا متساوية كما هي التجربة الهندية ’ ولكن خلف كل تلك المعارك الدموية مصالح أعمق مما ينشر في الإعلام الكاذب. اعتقد إن العالم ينبغي ان يكون منصفا وخارج معادلة دول محددة لم تكن عادلة ولكنها كانت أنانية وقوية وظالمة .
 
صحيفة الايام
5 مايو 2009