كانت الأرياف في المنطقة خلال قرون هي مصدر المنتجات الزراعية والاستقرار السياسي، رغم الجمود الاجتماعي السائد فيها، بل كانت الحياة الراكدة فيها والمحافظة أساس تلك التكوينات السياسية الامبراطورية التي دامت فترات مديدة.
لكن مع تحول بلدان الشرق الأوسط إلى الحداثة الاستيرادية ولعدم وجود خطط تنمية شاملة في البلدان العربية والإسلامية وفي غياب التحول الإنتاجي المتعدد الصور للأرياف خاصة، دبت الاضطرابات في المنطقة خلال القرن العشرين، ويمكن أن نعتبر الانقلابات خاصة أنها تمثل غليانا مستمرا نابعا من الأرياف المضطربة.
ولم تتوقف الاضطرابات في الأرياف حتى لحظتنا الراهنة، فنظراً لتدهور حال الزراعة وتدني أسعار المحاصيل الزراعية، وتمدد المدن الفوضوي فوق أجسام الريف، وتلاشي طبقات الفلاحين للهجرة نحو المدن أو للخارج، وغياب الأجيال الجديدة للعمل الزراعي، واقتلاع الأشجار وتحويل البساتين والأراضي الزراعية إلى مبان، وإزالة الحرف واتساع فترات الجفاف ونقص المياه وغيرها من الأسباب، غدت الأرياف المصدر الأكثر خطورة للحركات السياسية الضائعة أو الفاقدة الأمل التي تقودها مواريثها الدينية إلى الصدامات المختلفة الفوضوية أو المغامرة غالباً.
وقد فهم مؤسسو الحركة الصهيونية وإسرائيل فيما بعد أهمية خلق ريف مختلف عن أرياف المنطقة، وأن يكون متقدماً، فنشأت حركة الكيبوتسات أو المستعمرات بدءا من سنة 1908، وصلت أعدادها سنة 2004 إلى 278 وتضم 126800 نسمة وهي تنتج 40% من محاصيل إسرائيل الزراعية، و8% من إنتاجها الصناعي في وقت سابق. (راجع موسوعة عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، 2004). وقد عادى المهاجرون من الدول الشرقية كالروس هذه المستعمرات وتدفقوا على المدن الصغيرة وتراجعتْ أعدادُ المستعمراتِ كثيراً عما كانت عليه وقت ازدهارها، وقد ظهرَ معظمُ قادة إسرائيل الكبار من هذه المستعمرات.
وعلى ذمة جريدة القدس فإن نصفَ المزارع التعاونية هذه قد أفلست في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وقد بدأت الحكومات بإعادة تجديد المستعمرات وإنشائها بصور مختلفة تقنية وفنية، لتغيير واقع معين وإظهار إسرائيل بصورة مختلفة.
كان ذلك في الماضي تفكيرا استراتيجيا، وغدت هذه المستعمرات أساس الوعي السياسي العلماني الشائع، ولكن تدفق المهاجرين الشرقيين وهبوط حركة المستعمرات وتلاشي دورها السياسي، صعّد القوى الدينية المتطرفة، وهو أمرٌ مماثلٌ في الجانبين العربي والإسلامي ولكن لأسباب مختلفة.
فهذا شيءٌ مختلف عن دولة المواجهة والقيادة العربية وهي مصر التي لم تقم الطبقات المهيمنة العليا فيها بمثل هذه الخطة أو بمقاربتها، بل تركت الأرياف تعاني التخلف وسيادة الملكيات الكبيرة وأدوات الإنتاج المتخلفة، وقد حاولت ثورة يوليو إجراء تغييرات في هذا الواقع، لكن الارتدادات السياسية مع السادات أعادت الريف المصري لما كان عليه، إن لم يكن اسوأ، فقد زاد عدد السكان وبقيت الأرض الزراعية بمحدوديتها ووسائل إنتاجها السابقة وتنامت طرائق الاستغلال العتيقة.
كانت أسرة البدراوي وحدها تمتلك أيام الثورة سنة 1952(36 الفَ فدان)، وقـُلصت في الإصلاح الزراعي الأول، وحتى زمن الإصلاح الزراعي الثاني سنة 1965 كانت تلك الأسرة تحتفظ بالكثير من أراضيها، وأعطي قسمٌ منها للعائلات الفلاحية الفقيرة ويبلغ (سبعة وخمسين فداناً).
في عهد السادات صدر قانون العلاقة بين المالك والمستأجر يتضمن فعليا تحويل الأملاك المصادرة سابقاً لمالكيها السابقين.
“وقد قام القانون رقم 96 لسنة 1992 برفع القيمة الايجارية إلى 22 مثل الضريبة، بزيادة تجاوزت 300% وأعطى المالك منفرداً الحق في إنهاء عقود الإيجار الزراعية اعتبارا من عام 1997” وهو أمر يحول الفلاح إلى قن.
“وازداد الوضع سوءاً بعد انخفاض أسعار المحاصيل وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من تقاو وكيماوي وإيجار ومعدات، إضافة لقصر دور وزارة الزراعة على الجانب الإرشادي بعد أن كان دورا خدميا يشمل تقديم مستلزمات الزراعة بأسعار منخفضة وحماية المزارعين من التجار والمرابين وبيع المحاصيل وتسويقها بأسعار تشجيعية حماية للفلاح من سيطرة الاحتكارات”، موقع إسلام أون لاين.
“ويرصد عريان نصيف – مستشار اتحاد الفلاحين تحت التأسيس – تطور أحوال الفلاح المصري في دراسة له حيث يقول إن 22% من ملاك الأراضي كانوا حتى عام 1894 يحوزون أكثر من 50% من جملة الأراضي، وإنه وفقا لاحصاءات 1950 كان حوالي 75% من الفلاحين أجراء في أراض مملوكة لكبار الملاك”، السابق.
وكان من جراء هذه الظروف السيئة كلها تدفق المقتلعين من أراضيهم وظروف عملهم المستقرة نسبيا، الموروثة، إلى ضياعهم في المدن، وفي خارج مصر، واستغلالهم سياسيا واقتصاديا. (90% من عمال الأرصفة والمشردين من الفلاحين في المدن).
(إن وعي هذه الجماهير الريفية سواء كانت لاتزال في القرى أو هي مهاجرة منها، هو وعي ديني، فهي غير منظمة، ولا تعرف جذور مشكلاتها، وهي أمية وبالتالي تجذبها الشعارات الدينية ففيها عبادتها وحياتها، لكن يتم تنحية هذا الوعي باتجاه سياسي معين تغيب فيه قضية الريف وتغييره الاقتصادي فـُتستخدم هذه الجماعات للصراعات السياسية في المركز، وكان أغلب قادة وجمهور الحركات الدينية من هذه الأرياف. ووعيهم يوجه القضية باتجاه الاصطدامات مع الكفر والخيانة والردة وغيرها من هذه المطلقات غير المناسبة، فتضيع قضيتهم التي سببت اقتلاعهم من ريفهم.
ويكفي من سخرية الموقف أن أكبر طبقة مُعرضة لأقسى المشكلات وهي طبقة الفلاحين أن يكون اتحادها حتى الآن تحت التأسيس.
صحيفة اخبار الخليج
4 مايو 2009