في عشية انهيار دول المعسكر الاشتراكي بأوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وتحديدا عام 1988م صدر لمجموعة من العلماء الاطباء والمؤرخين البريطانيين وعلى رأسهم ديفيد ارنولد أستاذ التاريخ بجامعة لانكستر كتاب تاريخي علمي يهم شعوب البلدان التي وقعت تحت نير الاستعمار الغربي، حيث يفضح دور هذا الاستعمار في انتشار الكثير من الامراض والاوبئة، أو على الاقل تخاذله بعدم مكافحتها وحصرها والقضاء عليها سريعا. كان الكتاب الذي صدر حينذاك بعنوان “الطب الامبريالي والمجتمعات المحلية” وقد ترجمته بعدئذ سلسلة عالم المعرفة الكويتية إلى العربية وصدر مترجما عنها عام 1998م، وكان من اهم الموضوعات التي اهتم بها مؤلفو الكتاب توضيح اذا ما كان الطب الغربي في المستعمرات نزيها انسانيا كما يفترض الكثيرون، ومن ثم إذا كان يمثل منجزا علميا جلبه المستعمرون إلى شعوب البلدان المتخلفة المستعمَرة، كما كان يروج ذلك منظرو الدول الاستعمارية الغربية الذين زعموا بأن الامراض والاوبئة المنتشرة في البلدان المستعمَرة (بفتح الميم الثانية) انما ترجع إلى فقر وجهل شعوبها، في حين يتجاهل هؤلاء المنظرون دور أسيادهم المستعمرين في استنزاف ثرواتها واحتكار العلم والتكنولوجيا بما في ذلك العلوم الطبية التي تقدمت بفضل ذلك النهب الوحشي لبلدان المستعمرات مما أفضى إلى تفريخ وانتشار تلك الاوبئة، ناهيك عن ان الاوروبيين المستعمرين ظلوا عقودا طويلة يقتصرون في تقديم خدماتهم الطبية لقواتهم المحتلة وجالياتهم المقيمة في تلك البلدان المستعمَرة.
وكان من ابرز الامراض والاوبئة التي تناولها الكتاب والتي انتشرت في هذه البلدان المتخلفة ونكبت بالاستعمار الغربي أوبئة مرض النوم، والكوليرا، والجدري، والبلهارسيا، والطاعون، والإنفلونزا في روديسيا الجنوبية.
وعند الكتاب لم يكن يعرف العالم حينذاك اجيالا جديدة من الاوبئة التي اخذت تظهر تباعا منذ تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا بدءا من الطاعون الحيواني المعروف بجنون البقر وليس انتهاء بإنفلونزا الدجاج الذي تعمم ليشمل كل الطيور الداجنة والطائرة على السواء.. وأخيرا ها هي الانباء تطالعنا بمرض جديد آخر أشد فتكا من إنفلونزا الطيور يعرف باسم “انفلونزا الخنازير” وبات يهدد جديا باجتياحه بلدانا عديدة ما لم يتم حصره. كان اشد الامراض فتكا ويثير رعبا من الامراض المعدية حين صدور الكتاب في نهاية الثمانينيات هو “الإيدز” وهو فيروس جنسي لم يسبق للبشرية أن عرفته في زمن الاستعمار او على مدى تاريخ نشوئها وتطورها.
تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى ان فيروس وباء المرض الجديد اشد فتكا بالفئة العمرية ما بين الـ 25 عاما والـ 45 عاما وهو يماثل تاريخيا وباء الإنفلونزا الاسبانية الشهيرة في أوائل القرن الفائت التي فتكت بملايين البشر، والمفارقة الخطيرة المدهشة ان الشعوب التي تحرم دياناتها اكل لحم الخنزير كشعوبنا العربية الاسلامية وكاليهود أضحوا ليسوا بمنجاة من شره لأن الوباء لا ينتقل من اكله، بل من الجو وعبر احتكاك المصابين بعدواه بغيرهم من البشر من خلال المصافحة أو التقبيل أو الملامسة وغير ذلك من اشكال الاجتماع والاحتكاك والمعاملات البشرية المختلفة.
ومع ان المرض ظهر في اقصى اقاصي القارة الغربية انطلاقا من المكسيك تحديدا إلا أنه سرعان ما ظهر بعض بوادره في “اسرائيل”، وكان قد ضرب عشرات المصابين في الولايات المتحدة وكندا وأسبانيا ونيوزيلندا والحبل على الجرار.. والله يستر.
وهكذا فان الحضارة الغربية التي لطالما تباهت بتفوقها العلمي والطبي وبغطرستها وتعاليها على شعوب العالم الثالث التي تنعتها بـ “الجاهلة” والتي وصفتها بأنها مرتع لتفريخ وانتشار الاوبئة، ومنت على هذه الشعوب بفضل طبها في القضاء على تلك الاوبئة والامراض، هذه الحضارة ذاتها وفي عصر العولمة، أو ما بعد “الامبريالية”، هي نفسها اليوم مصدر لتصدير اجيال جديدة غير معروفة من الأوبئة مع تعاظم العبث الرأسمالي بالتوازن البيئي والطبيعي والتصنيع “الهرموني” الغذائي والمؤثر بدوره في الطبيعة والحيوان والانسان مما يستحق معه ان تضطلع ثلة من علماء الطب الانسانيين بتأليف كتاب على شاكلة ثلة العلماء التي الفت الكتاب المتقدم ذكره يتضمن دراسة علمية طبية خاصة لأمراض العولمة الراهنة وفي عدادها بالطبع امراض جرائم التصنيع والعبث الرأسمالي العالمي بالتوازن البيئي وتلويث البيئة العالمية ارضاء لنهم وجشع الرأسمالية العالمية اللذين لا يعرفان حدودا.
وإذ اننا نعيش عصر العولمة او عصر القرية العالمية الصغيرة التي تنتشر بين ارجائها وفضاءاتها المفتوحة الامراض في سرعة البرق، تماما كسرعة انتشار الافكار والمعلومات.. وإذ اتخذت كل الدول الغربية المتقدمة والعديد من دول العالم الثالث احتياطاتها القصوى لمنع اختراق الوباء لفضاء بلدانها، فان مما يدعو إلى الأسف الشديد ألا يبدو حتى الآن ان الدول العربية، وبضمنها بلادنا، التي تعد من اكثر هذه الدول في فتح ابوابها على وافدين متعددي الجنسية، وعلى الاخص الامريكيون والاوروبيون الاكثر تعرضا للعدوى، قد اتخذت ما يكفي من الاحتياطات الجادة المشددة القصوى لمنع تسلل العدوى لبلادنا.
صحيفة اخبار الخليج
3 مايو 2009