المنشور

بديهيات..!


عودة الى الحديث عن الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030، فما أكثر ما يمكن أن يقال عنها وفيها.. من اللافت في شأن هذه الرؤية أن هناك من يريد أن يوحي لنا أن وراءها تصميم فعلي للمضي بها قدماً إلى الأمام، وأنه لن يكون بمقدور أحد أن يعطلها أو يبدلها أو يحرفها أو يجعلها أسيرة لحسابات واعتبارات وتعقيدات وعراقيل من هنا أو هناك.
وما دام الأمر كذلك، ونرجو أن يكون كذلك حقاً، خاصة وأن هذه الرؤية كما هو وارد في مقدمتها هي حصيلة رؤى واسهامات قطاعات عريضة من قادة الرأي في القطاعين العام والخاص، ورجال السياسة والهيئات المتخصصة، بالإضافة إلى بعض بيوت الخبرة الاستشارية والهيئات الدولية، فإنني أحسب أن من سوء التقدير وسوء الفهم والتحليل ألا نجعل أنفسنا في موضع المترقب لمسار تطبيقات هذه الرؤية وما بشرتنا به من طموحات كبيرة على صعيد الإصلاح والتطوير وتحقيق الاستدامة والتنافسية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وخفض الإنفاق غير الفعال وتحقيق مستوى معيشي أفضل للمواطن، وتوفير بيئة أعمال متطورة، وفرض سلطة القانون ومعاملة الجميع بالتساوي ورفع جاهزية النظام القضائي والإصلاح الإداري، وإيجاد نظام رقابي حكومي واضح وشفاف واشهار سيف المساءلة والمحاسبة، ومحاربة الفقر والفساد كمطلب أساسي وحيوي للنمو الاقتصادي، وهي المبادئ الأساسية للرؤية التي تشكل في مجموعها وتفاعلها مع بعضها البعض الدوافع لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد البحريني.
 اليوم في شأن هذه الرؤية أجدني في حاجة إلى الإلحاح بالسؤال عما اذا كنا حقاً قادرين على السير بهذه الرؤية لتبلغ ما تستهدفه في مجالات التنمية والاقتصاد في ظل وجود ما يمكن اعتباره من دون مبالغة أخطر لغمين في واقعنا الراهن بلا منازع وهما الفساد والطائفية، وعلينا أن نتنبه جيداً بأنهما وجهان لعملة واحدة والترابط بهما عضوي ووثيق، فالفساد هو تخريب لحقوق المواطنة وتقويض لتكافئ الفرص والمساواة وقتل مفهوم القيم الأخلاقية، وهو الذي يعرض احلام المواطنين للبيع في بازارات وشبكات المصالح الخاصة ولعبة القوى الضاغطة المنبثقة عنها والتي تضع العصى والعراقيل في دواليب مساعي أي جهد للإصلاح ومعالجة الأخطاء والتجاوزات، كما إن السلوك الطائفي هو أحد أوجه الفساد، لأنه سلوك يستغل العصبيات الطائفية والمذهبية للوصول إلى مآرب آنية ويجعل كثيراً من مجريات الأمور والأعمال في كثير من مواقع العمل والمسؤولية تتم وفق ممارسات ومسارات تسخر لتكون في النهاية أداة فساد وإفساد، وبات الكثير من أوجه الفساد مغطى بالطائفية والمذهبية، وهي ممر حر للفساد كما قال نصري الصايغ، وأن «الفساد هو الابن الضال للطائفية، والتمسك بها هو نتاج المنافع الذي يؤمنه الفساد لها، وتعميم الفساد هو تبيض للطائفية، وكلاهما ينامان في مخدع واحد وينجبان كل ما يشرع للنهب والاستغلال والتسيب والمحسوبية وانتهاك القوانين وكرامة الإنسان»، كما بات كثيرون ممن يمارسون السلوك الطائفي مندفعين ومناورين ومساومين، يعملون على انتزاع حقوق الآخرين على حساب الكفاءة والأهلية، وأصبح البعض يحتمي بالطائفية إما لتفادي احتمالات تعرضه للمساءلة على تقصير أو إهمال أو تجاوز أو فساد، وكأنه وجد تحت مظلة الطائفية من يدافع عنه ويحميه، أو لأنه وجد باسم الطائفية ما يستمد منها الحضور والسلطة والنفوذ، وكلما ظننا في وقت من الأوقات أن هناك انحسارا للطائفية والمذهبية واعتقدنا أن مدها قد تراجع، عملت القوى المستفيدة منها النفخ في جمرها لتعيد اشتعالها.
وهنا يكون السؤال الضروري، هل يمكن أن نخلق بيئة مهيأة للرؤية الاقتصادية المستقبلية للبحرين وأهدافها الإصلاحية وأن نمضي بها إلى الأمام اذا بقيت الطائفية تطل برأسها علينا في حياتنا العامة من خلال مظاهر شتى أبطالها مسؤولون ونواب وكتل وسياسيون وتجمعات وجمعيات خاصة أصبحت عضويتها قاصرة على لون واحد؟ وهل يمكن توجيه بوصلة الرؤية الى ما يحقق أهدافها وغاياتها اذا لم يوضع حجر الأساس الذي تبنى عليه معركتنا ضد الطائفية والفساد؟ وهل يمكن في ظل هذه المناخات والأجواء والمقارعات والتجاذبات والمشاحنات وعلى أكثر من صعيد ووجود هواجس شتى أن نبني اقتصاداً مزدهراً للبحرين تفعّل فيه الطموحات وتتعزز فيه ثقة صاحب العمل والمستثمر في بيئة الأعمال والاستثمار، بقدر ما تتعزز فيه ثقة المواطن في التنمية والعدالة الاجتماعية التي تنشد الرؤية بلوغها؟ بقي سؤال مهم يجب ألا يكون غائباً عن الأذهان، هل يمكن تحقيق الإصلاح الاقتصادي الذي تسعى إليه الرؤية الاقتصادية بذات الأدوات والعقلية البيروقراطية التي جعلت الإصلاح مستعصياً حيناً، أو عرضة للتردد حيناً آخر، مما قد ينشئ هوّة بين القرار وتنفيذه على الأرض؟ تلك مسائل قد تبدو بديهية.. ولكن يبدو أننا اليوم في حاجة إلى التأكيد على الكثير من البديهيات وهذه في حد ذاتها مشكلة.. !!