المنشور

حبل القاعدة‮ ‬يقترب من عنق إسلام أباد‮!‬

في‮ ‬وادي‮ ‬سوات نجحت حركة طالبان باكستان في‮ ‬إجبار الحكومة المركزية في‮ ‬إسلام آباد على إبرام اتفاق‮ ‬يخول الحركة فرض الشريعة الإسلامية في‮ ‬الإقليم‮.‬ وبعد أيام معدودات وافقت الحكومة في‮ ‬الصومال على تطبيق الشريعة الإسلامية في‮ ‬البلاد نزولاً‮ ‬عند رغبة المليشيات الأصولية المسلحة وتحديداً‮ ‬مليشيات منظمة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة،‮ ‬التي‮ ‬كانت قد وضعت هذا الشرط للدخول في‮ ‬مفاوضات مع الحكومة حول وقف الأعمال الحربية والمشاركة في‮ ‬العملية السياسية وصولاً‮ ‬لإشاعة السلام في‮ ‬البلاد،‮ ‬وهو الحلم الذي‮ ‬يعد،‮ ‬هو الآخر،‮ ‬يزورهم في‮ ‬منامهم وغفواتهم بعد أن باعدت المسافات الزمنية بينه وبينهم‮ (‬حوالي‮ ‬ثمانية عشر عاماً‮)‬،‮ ‬وبعد أن التحقت بلادهم،‮ ‬أو هم ألحقوها بالأحرى،‮ ‬بزمرة ما تسمى بالدول الفاشلة‮ ‬‭(‬Failed States‭)‬‮ ‬التي‮ ‬لم تعد تتمتع بأبسط مقومات الدولة القومية الحديثة‮.‬ وبذا‮ ‬يكون تنظيم القاعدة قد حقق انجازين‮ ‬يستطيع التباهي‮ ‬بهما أمام مريديه من الشباب المغرر بهم في‮ ‬عديد من الساحات ومنها ساحة المواقع الإلكترونية الفسيحة،‮ ‬وهو الذي‮ ‬ظل لفترة ليست بالقصيرة‮ ‬يعاني‮ ‬نزفاً‮ ‬شديداً‮ ‬جراء الضربات الموجعة التي‮ ‬تلقاها في‮ ‬غير ميدان من ميادين‮ ‬غزواته‮ ‬غير المظفرة‮.‬ حيث تبخرت أحلام الإمارة الإسلامية النقية في‮ ‬أفغانستان،‮ ‬وفي‮ ‬السودان الذي‮ ‬وقع عليه الاختيار مطلع تسعينات القرن الماضي‮ ‬ليكون أحد الملاذات الآمنة لعناصر وقيادات القاعدة قبل أن‮ ‬يضطر النظام السوداني‮ ‬تحت ضغط الغرب لطرد زعيم التنظيم أسامة بن لادن من أراضيه،‮ ‬وأخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬العراق الذي‮ ‬تراءى لقيادة التنظيم القابعة في‮ ‬مغارات وكهوف أفغانستان وباكستان،‮ ‬في‮ ‬لحظة من اللحظات،‮ ‬أنه سيكون‮ ‘‬الجائزة الكبرى‮’ ‬التي‮ ‬ستعوضهم عن خسارة أفغانستان،‮ ‬فإذا بهذا الحلم،‮ ‬هو الآخر،‮ ‬يتبدد،‮ ‬ليعود البحث من جديد عن أهداف وملاذات أخرى‮.‬ الصيد ليس ثميناً‮ ‬بطبيعة الحال،‮ ‬فأين‮ ‘‬سوات‮’ ‬والصومال من الأهداف الكبرى سالفة الذكر؟ ولكنهما،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬يظلان إنجازين معنويين على الأقل في‮ ‬إطار عمليات الكر والفر التي‮ ‬تخوضها القاعدة عبر العالم لإنشاء ولايات أو إمارات دولة خلافتها أو لخلق مواطئ أقدام وقواعد وملاذات آمنة لها ولمحاربيها‮.‬ ويبدو أن الاستراتيجية قد تبدلت،‮ ‬فبعد أن كانت الأهداف كبيرة،‮ ‬صعبة ووعرة،‮ ‬تم التحول إلى الأهداف السهلة وإن كانت أقل شأناً،‮ ‬بحيث‮ ‬يتم الانتقال من الأسهل إلى الأصعب وليس العكس‮. ‬فإقليم‮ ‘‬سوات‮’ ‬الواقع في‮ ‬القطاع الشمالي‮ ‬الغربي‮ ‬لباكستان على بعد‮ ‬160‮ ‬كيلومتراً‮ ‬من العاصمة الباكستانية إسلام أباد،‮ ‬هو في‮ ‬الواقع ليس سوى مزار سياحي‮ ‬يشكل قبلة للسياح من جميع أنحاء العالم بسبب الطبيعة الجبلية الخلابة وبحيراتها الرقراقة ومروجها الخضراء ومنحدراتها الجليدية التي‮ ‬تستقطب عشاق رياضة التزلج على الجليد من جميع أنحاء المعمورة،‮ ‬حتى سميت بـ‮ ‘‬سويسرا باكستان‮’.‬ تبلغ‮ ‬مساحة إقليم سوات‮ ‬5337‮ ‬كيلومتراً‮ ‬مربعاً‮ ‬وعدد سكانها‮ ‬3‭,‬1‮ ‬مليون نسمة،‮ ‬عاصمتها سيدو شريف ولكن مدينة مينجورا تستحوذ على معظم ثقل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإقليم‮. ‬وقد كان إقليم سوات إلى سنوات قليلة خلت عبارة عن ولاية سلطانية إلى أن أُلغيت في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬1969 وهي‮ ‬بهذا المعنى تختزن في‮ ‬جنباتها تاريخ حافل بالأحداث التي‮ ‬توالت على الإقليم منذ أن قطنها الإنسان قبل نحو ألفي‮ ‬سنة،‮ ‬فقد‮ ‬غزاها الإسكندر الأكبر في‮ ‬عام‮ ‬305‮ ‬قبل الميلاد واستولى على مدينتي‮ ‬أوديغرام وباريكوت،‮ ‬قبل أن تخضع لنفوذ البوذيين في‮ ‬القرن الثاني‮ ‬قبل الميلاد،‮ ‬حيث‮ ‬يعتقد أن سوات كانت المكان الذي‮ ‬شهد ولادة بوذية فاجرايانا،‮ ‬وبقي‮ ‬السواتيون معتنقين للديانة البوذية والديانة الهندوسية حيث بقيت سوات تحت حكم السلاطين والمهاراجات الهنود حتى الفتح الإسلامي‮ ‬مطلع القرن الحادي‮ ‬عشر الميلادي،‮ ‬حيث شن محمود‮ ‬غزني‮ ‬هجوماً‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1023‮ ‬على الإقليم وقضى على آخر الملوك البوذيين راجا جيرا،‮ ‬وتم التحول إلى الديانة الإسلامية على أيدي‮ ‬أولئك النفر من الفاتحين‮.‬ وكما هو واضح من التضاريس الطبيعية والتاريخية والاجتماعية والثقافية لوادي‮ ‬سوات السياحي‮ ‬الخلاب،‮ ‬الذي‮ ‬يشبه بالمناسبة كثيراً‮ ‬إقليم كشمير،‮ ‬فإن مزاج معظم سكان المنطقة وكذلك المناطق المجاورة الخاضعة لنفوذ تيارات سياسية واجتماعية‮ ‬غير إسلامية،‮ ‬لا‮ ‬يقع على هوى ميليشيات طالبان الباكستانية التي‮ ‬اغتصبت المدينة وأخضعت سكانها بالقوة والبطش لنمط حياة لن‮ ‬يحتمله سكانها طويلاً‮.‬ ونظراً‮ ‬لضآلة الأهمية السياسية والجيوسياسية لمدينة سوات،‮ ‬كما أسلفنا،‮ ‬فإن القاعدة وتفريخاتها لن تقنع بهذا الصيد الصغير،‮ ‬وإنما هي‮ ‬ستعمل على التمدد إلى بقية المناطق المحاذية لسوات وصولاً‮ ‬إلى العاصمة إسلام أباد‮.‬ فكان زحفهم على مدينة بونر التي‮ ‬لا تبعد سوى‮ ‬60‮ ‬ميلاً‮ ‬عن إسلام أباد تنفيذاً‮ ‬لتهديد زعماء القاعدة وطالبان باكستان باجتياح البلاد وفرض الشريعة الإسلامية على كافة مدنها وقراها‮. ‬وكان أهالي‮ ‬مدينة بونر قد تحسبوا لهذا التهديد فشكلوا ميليشياً‮ ‬خاصةً‮ ‬بهم تمكنت على مدى ثمانية أشهر من صد هجمات طالبان،‮ ‬إلى أن انهارت مقاومتها الأسبوع قبل الماضي‮ ‬نتيجة لعدم تلقيهم الدعم اللازم من الحكومة الباكستانية.ووصل الاستعراض القاعدي‮ ‬الطالباني‮ ‬ذروته‮ ‬يوم الاثنين‮ ‬20‮ ‬أبريل بإعلان متحدث باسم طالبان الباكستانية في‮ ‬مدينة سوات ترحيب الحركة‮ ‘‬بالأخوة أسامة بن لادن ورفاقه وكل المجاهدين‮’.‬ وكل ذلك‮ ‬يحدث تحت أنظار وبصر الحكومة الباكستانية التي‮ ‬تتحمل كامل المسؤولية القانونية والسياسية عن تعريضها القدرة النووية الباكستانية لخطر الوقوع في‮ ‬أيدي‮ ‬هؤلاء الإرهابيين المتعطشين لسفك الدماء‮. ‬وهذا إن دل على شيء فإنما‮ ‬يدل على خطأ قرار باكستان بامتلاك السلاح النووي‮ ‬الذي‮ ‬أريد له أن‮ ‬يكون سلاح ردع ضد جارتها اللدودة الهند فإذا به‮ ‬يتحول إلى كابوس مرعب‮ ‬يقض مضاجع عقلاء باكستان وبلدان وشعوب المنطقة والعالم قاطبة،‮ ‬إن وقع المحذور‮.‬ أما وقد أصرت باكستان على خيارها النووي‮ ‬على الضد من قواعد معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ومناشدات الأسرة الدولية،‮ ‬فإنها لم تعد مخيرة فيما‮ ‬يتعلق بتأمين سلامة منشآتها وكامل طاقاتها النووية المادية والبشرية وعدم تعرضها لأي‮ ‬نوع من أنواع الخطر أو التهديد بوقوعه.وهذا ضمان نزعم أنه‮ ‬غير متحقق في‮ ‬الحالة الباكستانية الراهنة بسبب الاختراقات الفاضحة والواسعة النطاق لمجاميع القاعدة وطالبان لمؤسسة الجيش وكافة الأجهزة الأمنية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬أمَّن لهما‮ ‘‬طرقاً‮ ‬سالكةً‮ ‘ ‬للتمويل والتسليح المنتظمين والمتصاعدين،‮ ‬ومكنهما بالتالي‮ ‬من السيطرة على مناطق شاسعة في‮ ‬أفغانستان وباكستان‮.‬ زعماء القاعدة اليوم تتملكهم روح الثأر والانتقام جراء الضربات القاصمة التي‮ ‬وجهت لكوادر وعناصر التنظيم في‮ ‬غير بقعة من العالم،‮ ‬وهم في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬سيواصلون فيه السعي‮ ‬لتحقيق هدفهم الاستراتيجي‮ ‬في‮ ‬الوصول إلى أحد أسلحة الدمار الشامل،‮ ‬فإنهم سيعمدون إلى تحقيق نجاحات سريعة باختيار أهداف سهلة ومناسبة للاستعراض الإعلامي،‮ ‬وقد باشروا فعلاً‮ ‬في‮ ‬ذلك بمعاودة هجماتهم الانتحارية الهادفة لإعادة تفجير الوضع طائفياً‮ ‬في‮ ‬العراق،‮ ‬وخلق فوضى تتيح لهم العودة إلى المناطق التي‮ ‬خسروها والدخول على خط التجاذبات الإقليمية لتغذيتها طائفياً،‮ ‬وتكثيف نشاطاتهم في‮ ‬الصومال براً‮ ‬وبحراً،‮ ‬إضافة إلى استمرارهم في‮ ‬إشاعة الفوضى في‮ ‬باكستان لتثبيت أقدامهم في‮ ‬المواقع التي‮ ‬كسبوها ومحاولة توسيع دائرتها‮.‬ ولكن عيون القاعدة وزعمائها مركزة على‮ ‘‬الجائزة الكبرى‮’‬،‮ ‬على باكستان،‮ ‬حيث تشدد الخناق على نواحيها للإطباق النهائي‮ ‬على مدنها الرئيسية،‮ ‬ليس من دون تواطؤ ثلة من الطبقة السياسية،‮ ‬الحاكمة والمعارضة على حد سواء،‮ ‬بعد أن وصل الفساد إلى عظم النظام.وعندها سيكون العالم أمام أزمة عظمى سوف تتواضع أمامها أزمة الصواريخ السوفييتية التي‮ ‬نصبت في‮ ‬كوبا في‮ ‬ستينات القرن الماضي‮ ‬ووجهت إلى الأراضي‮ ‬الأمريكية وكادت أن تتسبب في‮ ‬إشعال حرب عالمية ثالثة.ولا‮ ‬يبدو النظام الدولي‮ ‬الذي‮ ‬فشل في‮ ‬احتواء الطموحات النووية الإيرانية حتى الآن،‮ ‬في‮ ‬وضع‮ ‬يؤهله للتعامل بجدية مع خطر ماحق كالذي‮ ‬يشكله استيلاء القاعدة وطالبان على السلطة في‮ ‬باكستان‮.‬
 
صحيفة الوطن
2 مايو 2009