تاريخ طويل من الأزمات الرأسمالية
كان صعود الرأسمالية ومازال صنواً لظهور النظريات والافكار العفنة العنصرية، فمن رحم الأولى ومن لبنات منظريها ومفكريها ولدت تلك الافكار والنظريات، بما في ذلك الافكار التي تحط من اللون والعرق والعنصر والدين، ومازالت هذه الافكار تظهر بين الفينة والاخرى في اثواب جديدة على الرغم مما قطعته البشرية من تطور وتقدم في فكر القيم الانسانية، والارتقاء بالحقوق الانسانية.
في أواخر القرن الـ19 لم يستح بعض علماء الاجتماع الرأسماليين مثل وليام سامز من القول ان ما يجنيه الرأسماليون من ارباح هائلة لهو ثمرة طبيعية لذكائهم ومثابراتهم، وان خسارة العمال وفقرهم انما هما جزاء عادل ناجم عن عجزهم وغبائهم وكسلهم. وعلى هذا النحو زعم ملك السكك الحديدية د. هيل في امريكا بأن ما جنته شركات السكك الحديدية من أرباح انما يؤكد صحة نظرية “البقاء للأصلح”.
لكن الثابت ان تلك الارباح انما تأتي دائماً وأبداً على انقاض خراب بيوت ملايين البشر من الشغيلة في العالم من الذين تقذف بهم المصانع والمؤسسات الرأسمالية الى الشارع بين كل ازمة واخرى من الازمات الدورية. لقد اصبحت البطالة، بامتياز ومعها تدني الاجور، العنوان الملازم بامتياز لكل ازمة من لوباء الرأسمالية في كل تلك الازمات الرأسمالية منذ صعودها التاريخي خلال النصف الثاني من القرن التاسع حتى عصرنا الراهن، عصر العولمة وانحسار قوى الاشتراكية واليسار في العالم.
وخلال هذه الفترة المديدة، أي طوال قرن ونصف القرن منذ قويت شوكة الرأسمالية العالمية مرت بما لا يقل عن 33 ازمة خطيرة متفاوتة الحجم والشكل ما بين ازمات دورية ووسيطة واخرى هيكلية متفاوتة التأثير والتداعيات. وإذ مازالت الرأسمالية قادرة على التكيف مع كل منها وتتخطاها من جديد، فإن السؤال الذي يقفز الى الاذهان هنا ما اذا الرأسمالية ستظل محتفظة بميكانيزمات القدرة على تعديل وتصحيح أوضاعها الى الأبد؟
كان عشرون من تلك الازمات الـ 33 التي عصفت بالرأسمالية قد وقعت في القرن العشرين، قرن التحولات السياسية والتكنولوجية والعالمية الكبيرة، قرن ثورات حركات التحرر والانعتاق من الاستعمار الكولونيالي الشكل الامبريالي للرأسمالية الصاعدة، قرن صعود حركات الطبقة العمالية العالمية ثم انكفائها. جاءت أولى هذه الازمات لتشمل روسيا وألمانيا عام 1900م، ثم ازمة 1907م التي تركزت في أمريكا، ثم ازمة 1913م التي جاءت عشية الحرب العالمية الأولى لتشمل انجلترا وفرنسا وألمانيا ودولا اوروبية اخرى، ثم ازمة 1920م التي تركزت في الولايات المتحدة واليابان، ثم ازمة الكساد الكبير في امريكا التي تحولت الى ازمة عالمية (1929-1932م)، ثم ازمة 1937م في بريطانيا والولايات المتحدة، وأزمة 1947م في الاخيرة غداة خروجها من الحرب العالمية الثانية التي امتدت آثارها الى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وازمة عام 1957م في امريكا وحدها، وازمة (1960-1961م) في الولايات المتحدة وحليفاتها في اوروبا الغربية، وازمة 1967م التي عصفت باقتصاد ألمانيا الاتحادية، وأزمة (1969-1971م) التي حدثت اثر انهاء العمل بنظام بروتون وودز المالي، وشملت ايطاليا وفرنسا واليابان، وازمة 1973م اثر قطع العرب النفط عن الغرب خلال حرب اكتوبر، وازمة عام 1974م الدورية ذات الطبيعة الهيكلية التي تسببت في تسريح 18 مليون عاطل عن العمل حتى نهاية 1975م وهي اطول الازمات الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية، ثم أزمة 1979م النفطية اثر تداعيات غياب نظام الشاه في ايران النفطية والحليف القوي للغرب في المنطقة، وذلك اثر الثورة الشعبية التي اطاحت به في ذلك العام. ثم ازمة 1981-1983م الركودية وتفاقم ديون الدول النامية خلالها وبخاصة في المكسيك والبرازيل، وأزمة مصارف الادخار والقروض عام 1985م في امريكا، وأزمة انهيار بورصتي لندن ونيويورك عام 1987م، وازمة 1990م اليابانية، وازمة 1994م المكسيكية، وازمة النمور الآسيوية 1997-1998م التي شملت اليابان وروسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
أما ازمات العقد الحالي الموشك على الافول فلعل ابرزها ازمة عام 2000م الامريكية التي شهدت انهيار شركات الانترنيت في “وول ستريت” تلتها ازمة 2001م الركودية وشملت الارجنتين، وازمة 2005م التي شهدت افلاس عدد كبير من الشركات، ثم ازمة النفط والغذاء العالمية اثر ارتفاع اسعار النفط الى مستويات قياسية خلال عامي 2007-2008م.
وأخيراً تأتي الازمة المالية العالمية الراهنة التي ضرب زلزالها الولايات المتحدة ومازالت ارتداداتها الاهتزازية تضرب العالم برمته، وهي الاخطر في تاريخ ازمات النظام الرأسمالي العالمي منذ ازمة الكساد الكبير الذي ضرب امريكا خلال الفترة 1929-1932م. ولا أحد من الاقتصاديين العالميين بقادر على ان يتنبأ حتى الآن على وجه الدقة بمدى عمق تداعياتها الكارثية المتتابعة ولا بأفق اجتيازها، ولاسيما ان العالم خسر حتى الآن بسببها 50 تريليون دولار كان نصيب القارة الآسيوية منها 6،9 تريليونات دولار في حين كان نصيب الولايات المتحدة وحدها 7 تريليونات دولار.
يحدث ذلك فيما تزداد الضغوط الوحشية الرأسمالية على خيرات الكوكب بمعدل الضعفين بسبب الاستثمار النهم والمدمر للموارد الطبيعية والمتمثل على وجه الخصوص في اقتلاع مساحات شاسعة من الغابات، والاستهلاك الجنوني لمخزون المياه العالمي، وتقلص التنوع الحيوي والخلل المناخي، والقضاء على 30% من الحيوانات الفقارية وتلويث البحار وردم مساحات شاسعة منها.
وازاء ذلك لم يجد صندوق “النهب” العالمي مناصاً من الاعتراف بأن البشرية ستحتاج مع قدوم عام 2030م الى كوكبين اضافيين لتلبية احتياجات البشر الآخذة في النضوب المنهجي المفتعل بسبب الافتراس الوحشي لموارد كوكب الأرض بمعدلات تفوق طاقتها بما يقارب الثلث، وعندها لربما ستصدق نبوءة المنظر الرأسمالي فوكو ياما بنهاية التاريخ كما بشر العالم منتشياً بانهيار الاتحاد السوفييتي، لكن انما ستصدق هذه المرة نبوءته على نحو ساخر أي بنهاية البشرية والتاريخ معاً وذلك اذا ما ظل النظام الرأسمالي العالمي هو المهيمن الى ما لا نهاية حتى اقتراب الساعة.
فلا غرابة والحال كذلك اذا ما جاءت احتجاجات لندن ضد قمة العشرين عنيفة في ايقاعها، وقد قلنا حينها إنها على الارجح ستكون بمثابة بروفة لمسيرات احتجاجية عمالية ستعم عواصم العالم في اول مايو القادم، وستكون على الارجح الاقوى في تاريخ مسيرات أول مايو العمالية منذ جعله عيدا عماليا عالميا.
صحيفة اخبار الخليج
29 ابريل 2009