استطاعت القوى الرأسمالية الغربية الكبرى أن تتحكم في طرق التجارة العالمية خلال القرون الـ16، والـ17، والـ18، والـ19 الميلادية، ونقول كبرى لأن ثمة رأسماليات غربية أخرى لم تنمُ بتلك الصورة الكبيرة، نظراً لتفككها الجغرافي السياسي، وضعف قواها المنتجة كألمانيا وإيطاليا وأوروبا الشرقية عامة، ثم قامت تلك الدول الكبرى بالتغلغلِ الاقتصادي الداخلي في الدول الشرقية، كما رأينا في حرب الأفيون التي تحولتْ من تصدير البضائع إلى العمليات الحربية والسياسية، وفرض المكانة العليا لبضائعها، ثم اقتطاع أراضٍ لها كهونغ كونغ التي أصبحت مستعمرة، ثم السيطرة السياسية الكلية عليها كالهند.
في الهند تداخلت السيطرتان التجارية والسياسية عبر شركة الهند الشرقية، وكان الهولنديون أول من أسس هذا النمط من الشركات التجارية السياسية المسلحة، التي تجمع بين الغزو والتجارة:
(شركة الهند الشرقية المحترمة)، كان يُطلق عليها العامة لقب “شركة جون”، أما أهل الهند فكانوا يطلقون عليها اسم شركة “باهادور”. وقد كانت شركة مساهمة عامة إلا أن شركة الهند الشرقية الهولندية هي صاحبة المبادرة في إصدار سندات المساهمة العامة. كانت ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى قد أصدرت مرسوماً بإنشائها في ديسمبر 1611 مانحة لها سلطات احتكارية على تجارة الهند وجميع مستعمراتها في جنوب شرق آسيا لمدة 21 عاماً. وذلك بأن تنفرد هذه الشركة بتولي جميع المعاملات التجارية. وبهذا تحولت هذه الشركة من مشروع تجاري إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع مستعمرات التاج البريطاني في المنطقة وذلك بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا. استمر ذلك حتى حلت الشركة إثر اندلاع التمرد، والعصيان المدني في الهند .1858) عن موسوعة ويكيبيدا، الموسوعة الحرة.
تغلغل الرأسمالُ التجاري الغربي في دولِ آسيا وافريقيا عبر العنف، وباختراقِ السيادات الوطنية والفضاءاتِ الدينية، وكانت التوابلُ والعاج والحرير وغيرها من المواد هي المطلوبة في مرحلة رأس المال التجاري هذا، وقد كان لهذا البحث آثاره كتبدلِ طرق الملاحة، وتدهور مدن تجارية قديمة كبعض المدن التجارية العربية خاصة، وصعود مدن تجارية أخرى ونمو برجوازيات تجارية على خطوط التجارة الدولية مثل طريق الحرير خاصة، ثم جاءتْ المرحلة التجارية الأكثر تطوراً، وهي استيرادُ وجلبُ ونهب المواد الخام المستخدمة في الصناعة كالمطاط والقطن والفوسفات وخامات الحديد وهي مرحلة تمثل صعود رأس المال الصناعي الغربي، الأمر الذي سرّع من الثورة الصناعية وانتشارها في شمال أمريكا وغرب أوروبا.
وهكذا فإن الرأسمَالين التجاري والصناعي الغربيين قاما على دعائم الحراب، وهذا من جهةٍ أدى إلى تبدلِ أنماط الاقتصاد في آسيا وافريقيا، من التطور الطبيعي إلى التشكيل الاقتصادي المُسيّس، عبرَ تنحيةِ سلعٍ وتصعيد سلع، لها دورها في عملية الانتقال من اقتصاد البذخ والاستهلاك الترفيهيين إلى اقتصاد المصانع الغربي، وإذا كان هذان الشكلان سوف يستمران بنسبٍ معينةٍ فإن النسبَ تحددها مجرياتُ التطور ونمو الاستهلاك والإنتاج، المرتبطة بقوى الإنتاج، إلا أن تغلبَ استيراد المواد الخام الموجهة للصناعة، عملية سوف ترتبطُ بصعود الرأسماليات الصناعية الكبرى وهيمنتها على التاريخين العالمي والغربي، خلال القرون الـ18، والـ19 والـ20، وهو أمرٌ سيعرقلُ نمو الرأسمال الصناعي في آسيا وافريقيا، من جهةٍ، كما سيؤدي إلى تفاوتات في البُنى الرأسمالية الغربية من جهةٍ أخرى، مما سوف يفجرُ الصراعات بينها لإعادة توزيع المستعمرات كما في الحربين العالميتين وغيرهما من الحروب.
إن التشكيلَ الاقتصادي المُسيّسَ لاقتصاديات آسيا وافريقيا، المدعوم بالقوة العسكرية، سيعرقلُ نموَ البرجوازيات الصناعية فيها، كما سيتركُ هوامشَ للبرجوازيات التجارية والمالية الوطنية، الناقلة للبضائع الغربية، واليابانية فيما بعد، فهي الشريط الاجتماعي الداخلي لنقلِ البضائع من بلدِ الإنتاج إلى بلدِ الاستهلاك.
ولكن هذا الوضع الاجباري لبعض الدول لا ينطبق على كل دول آسيا وافريقيا، فهناك دولٌ كبرى كان من الصعب التغلغل والسيطرة عليها كروسيا والصين، لكن ظروف التحدي والسيطرة على دول القارتين كانت واحدة، ومن هنا كان قيام الدولتين بعملية التحرر السباقة والجبارة، وفي شروط الرأسمالية الكونية وإن بدا لهما غير ذلك.
أي أن قوى الإنتاج الثورية الغربية كانت تعيدُ تشكيلَ العالم عبر مراحل مرتبطةٍ بتراكماتِ الرأسمال الخاص فيها، فتنفضُ ملابسَ الدول الشرقية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القديمة طبقاً لها ولتطورها هي، وليس لتطورات وأهداف تلك الدول الشرقية، فيما عدا الدول المتحررة من السيطرة، فتقوم بالتنميات الرأسمالية حسب شروطها.
وبهذا فإن نموَ الرساميل التجارية والصناعية في آسيا وافريقيا يتحددُ بتلك القوى الإنتاجية الغربية، فينمو الرأسمالُ التجاري بتوسعٍ كبير، وفي أعقابهِ ومعه يزحفُ الرأسمال المالي، فالأولُ يؤسسُ الأرضَ الاستهلاكية لما تنتجهُ تلك القوى المنتجة الغربية، والثاني يجمعُ المدخرات والرساميلَ المُنتجة محلياً ويحولـُها إلى المركز الغربي ليقوم الرأسمالان التجاري والمالي بتوسيع دوائر الإنتاج في الغرب.
ويأتي الرأسمالُ الصناعي في دولِ آسيا وافريقيا في أعقابهما، ليس من منطلق الاستقلال، والتكون الوطني التخطيطي الخاص، بل كذيولٍ لصناعاتِ تكرير المواد الخام وتوزيعها بين المركز الغربي والمستوردين الشرقيين، وما يترتبُ على ذلك من صناعاتٍ ومن حرفٍ مرتبطة بالبناء الاقتصادي العام كذلك، وهي كلها أجزاءٌ من نسيجِ العباءاتِ الذي خاطتهُ الدولُ الغربية المسيسة لاقتصاديات دول الشرق.
الأشكالُ من الرساميل الثلاثة تعبرُ عن العلاقات الاقتصادية في أصدائِها بالمركز المنتج، ولتبدل البُنى الاقتصادية حسب عصا المايسترو الغربي، الذي يغدو له الرأسمال التجاري الشرقي الطفل المحبوب، فهو ينميه ويرعاه بكل ود، مثلما يغدو له رأس المالي الشرقي صاحباً وصديقاً يدعوه للمشاركة والاستفادة المالية التعاونية، لكن على ألا تكبر هذه الصداقة للندية، فيما يظل الرأسمال الصناعي هو القزم المعوق الذي يقوم بأوسخ الأعمال في البيوت الشرقية، إما في الصناعات الخفيفة وإما في استيراد الصناعات القذرة التي يفرجُ عنها المركز الغربي لتتنقل للدول النامية الصديقة! وفي كل هذا نشوء فئات مستفيدة تجعلُ هذه البلدان دكاكين في لحظة تاريخية ثم سوبرماركتات في لحظة تاريخية أخرى، وممولة وحاصلة على الفوائد في كل الأوقات، في حين يقوم رأسُ المال الصناعي بتشكيل نوافذها وحرفها وأسرتها وعلبها بما يفيض عليه الكرمان الغربي والشرقي.
صحيفة اخبار الخليج
28 ابريل 2009