المنشور

صراع البضائع العالمي (1)

إذا كانت الرأسماليات الخاصة الغربية لها نشأتها ومساراتها التاريخية، الأسبق، فإن الرأسماليات الشرقية الحكومية لها هي الأخرى مساراتها وتكوناتها الخاصة المغايرة، ولكن كان على الرأسماليتين العالميتين المختلفتين أن تتناقضا في القرنين الـ 19 والـ 20 وتتصارعا. وإذ تركز التأريخ الاقتصادي في الرأسماليات الغربية واعتبرت الرأسماليات الشرقية نسخاً منها، ونسخاً منحرفة في أفضل الأحوال، أو هي نسخٌ مضادة لها ومحطمة إياها، فإن للرأسماليات الحكومية الشرقية سببياتها المختلفة، وأشكالَ تطورِها المتمايزة، وهي الأمورُ التي كانت عصية على فهم المؤرخين والباحثين الاقتصاديين.
إن تناقض الرأسماليتين البشريتين هاتين يقع أولاً ضمن الجغرافيا، فلم تكن أوروبا وأوروبا الغربية خاصة سوى ركن بسيط من الأرض، أما القارتان الكبيرتان آسيا وافريقيا، فهما مركز الأرض وساحاته الكبرى، الصغر من جهة والضخامة من جهة أخرى، التاريخ القديم الموغل في الماضي، والتاريخ القريب، وذو الحيثيات والجذور البسيطة، ومن هنا أطلق الوعي الأوروبي الحديث وهو يتعكز على الفئات الوسطى الطالعة من العصر الوسيط اسم قارتي الطفولة البشرية كما قال هيجل، خاصة على القارة السوداء، وهو إسقاط جنسي على العمليات التاريخية المعقدة.
ونظراً لصغر أوروبا فقد تنامت عملياتـُها الاقتصادية التاريخية بسرعةٍ شديدة، وكانت أساليبُ إنتاجها السابقة قد قامتْ على وحداتٍ جغرافية صغيرة، ولم تعق الامبراطوريات نمو الرأسمال الخاص ، وجاءتْ الملكياتُ المطلقة والدستورية في أواخر العصور الوسطى وبدء النهضة لتفجر طاقات الرأسمال الخاص على نحوٍ غير مسبوق.
وهكذا فإن الأضلاعَ البسيطة من غرب أوروبا: (انجلترا وهولندا وفرنسا) من قارة صغيرة ضمتْ إليها قارات كبيرة مليئة بالموارد، فكان انضمام قارة أمريكا الشمالية إليها حدثا اقتصاديا كونيا، وبهذا وجدت الرأسمالية الخاصة النامية الأوروبية امتدادها الثوري في أمريكا الشمالية القارة البكر الهائلة في المساحة والإمكانيات.
ثم أضيفت إليها قارتا استراليا، وأمريكا الجنوبية، وبهذا فقد كان هناك حصار كوني للقارتين القديمتين، بدأ بحريا ودينيا وصار اجتياحا وضما، وبهذا ملكت أوروبا الغربية العالم برمته، إلا بقاعاً محدودة.
وبهذا راحت موارد العالم القديم (آسيا وافريقيا)، والعالم الجديد(الأمريكتين واستراليا وغيرهما)، تغذي المصانع والحياة الاقتصادية والاجتماعية في قارة القيادة الجديدة للعالم.
كانت سيرورة الرأسماليات الغربية إذًا صراعاً مع تكوينات شرقية مبهمة الملامح، لها سلسلة من التشكيلات الاقتصادية القديمة الواهنة، امبراطورايات دينية ومذهبية وعلاقات عبودية وإقطاعية وأمية وفقرا وتخلفا، وجاءتْ القيادة الاقتصادية الجديدة الأوروبية للعالم لا لتجعلها متطورة وندا لها، بل لتستعبدها وتمنعها من التطور الحديث.
كانت الرأسماليات الأوروبية الغربية الشمالية غير قادرة على النمو في مساحاتها الصغيرة من دون موارد العالم، ولهذا كانت شهيتها للذهب وللقطن والتوابل والحرير عظيمة، فكانت قرون النهضة منذ القرن الثاني عشر الميلادي حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، هجمات واسعة على المعادن النفيسة خاصة الذهب الذي وُجد بوفرة في أمريكا الشمالية، وقام بدورهِ الخلاق في تفجير طاقات المصانع الأولى: (المانيفاكتورة)، لتنمو شبكة من المعامل معتمدة على المواد الخام الشرقية.
كان الرأسمال الخاص الغربي وهو ينشأ عدوا لدودا للرأسمال الشرقي المنتج، إذا قدر له أن يتكون، وهو لم يتكون حينئذٍ، إلا على شكلي رأسمال تجاري ورأسمال فائدة، لهما من جذورهما القديمة العريقة ما يجعلهما غير ذائبين في اعصار الرأسمال الغربي.
وبهذا فإن الرأسمَالين الشرقيين التجاري والتسليفي ذا الفائدة، صارت علاقاتهما بالرأسمال البضائعي، محدودة، ومُنتزعة من صلاتها وإمكانيات تطورها، فالبضائع على شكل المواد الخام القابلة للتصنيع راحت تمضي عن الأسواق الداخلية نحو الأسواق الخارجية، مرة عبر التجارة الحرة ومرات عبر المدافع والأساطيل الضاربة للسواحل والمدن.
وهذا ما تحقق “بجدارة” في حرب الأفيون على سبيل المثال:
“اهتمت بريطانيا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بفتح ابواب الصين امام تجارتها العالمية، فطلب الملك جورج الثالث إلى الامبراطور الصيني شيان لونج توسيع العلاقات التجارية بين البلدين، الا ان الامبراطور أجاب: ان امبراطورية الصين السماوية لديها ما تحتاج إليه من السلع، وليست في حاجة إلى استيراد سلع اخرى من البرابرة. فلم تستطع بريطانيا في ظل هذه الظروف تصدير الا القليل جدا من سلعها إلى الصين، وفي المقابل كان على التجار البريطانيين دفع قيمة مشترياتهم من الصين من الشاي والحرير والبورسلين نقدا بالفضة، مما تسبب في استنزاف مواردهم منها، لذلك لجأت بريطانيا إلى دفع احدى شركاتها، وهي شركة الهند الشرقية البريطانية (؟فِ فيلَة ف) التي كانت تحتكر التجارة مع الصين إلى زرع الافيون في المناطق الوسطى والشمالية من الهند وتصديره إلى الصين كوسيلة لدفع قيمة وارداتها للصين. تصاعدت حركة التهريب للأفيون إلى الصين بصورة تدريجية حيث لم يُهرب إليها في عام 1729م سوى 200 صندوق تحوي 608 كيلوجرامات من الأفيون قدرت كلفتها بخمسة عشر مليون دولار. ثم في عام 1792م وصلت المهربات إلى 4000 صندوق حوت 272 طنا. انزعجت الصين لهذه الظاهرة، وللخطر الذي يمثله تعاطي الافيون الواسع على صحة المواطنين، والذي يسبب تدمير المجتمع الصيني، كان الصيني يبيع ارضه.. ومنزله.. وزوجته .. وأولاده.. للحصول على الافيون …” (موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة).
تقدمت الدول الرأسمالية الكبرى لتبيع بضائعها وتشكل ما يُسمى التجارة الحرة، مستخدمة السلاح ثم الغزو ثم تغيير الحكام، ناشرة سلعها ودينها فتداخلت عمليات نمو التجارة بالسيطرة السياسية.

صحيفة اخبار الخليج
27 ابريل 2009