منذ شهور قليلة شاركتُ في فعالية أقامها مركز الحوار للثقافة في دولة الكويت الشقيقة بعنوان: «التنوير.. إرث المستقبل»، خصص جانب من هذه الفعالية لتاريخِ وراهِنِ فكرة التنوير والنهضة في إقليمنا الخليجي. وفعاليةٌ مثل هذه، جديرة بأن تتواصل في أنشطة قادمة في بلداننا الخليجية، وأن يكون من بين أهدافها تدوين تاريخ التنوير في الخليج، للتعرف إلى الظروف التي عمل فيها رواد هذا المشروع وأنتجوا ما أنتجوه، لأننا بذلك نُسدي خدمة ثقافية جليلة في إتاحة مادة توثيقية ومعرفية للأجيال الجديدة، علها تعرف شيئاً من ملامح تاريخ ما زال المجهول منه أكثر من المعلوم. كان د. إبراهيم غلوم قد نبه في بحثٍ قيم له عن وضع الثقافة في الخليج إلى ما دعاه «صور الانقطاع» بين أجيال المثقفين في بلدان الخليج، ملاحظاً أن المثقف الخليجي هو عضو شرعي في حركة جيله فقط، ولذا تكثر وتتعدد البدايات عندنا ولا ينشأ التراكم، فيكاد كل جيل يبدأ من جديد. وهذه فيما أرى ملاحظة دقيقة. ربما يدفعنا ذلك لإثارة سؤال عن مقدار معرفة جيلنا والأجيال التي تليه بالتاريخ الثقافي القريب لمنطقة الخليج، وهل تعي الشرائح الجديدة من مثقفي المنطقة أن للحداثة أو التحديث تاريخاً أبعد من تاريخ اكتشاف النفط في المنطقة والانفتاح الواسع على العالم ومفاهيمه ووسائله الجديدة؟ الأمر بحاجة إلى نقاش وإلى بحث. ومن يطلع على ما وصل إلينا من أشعار ومقالات ومراسلات يفاجأ حقاً بجرأة وشجاعة هذا النفر من الرواد في إثارة أسئلة كبرى في ظروف الحصار والعزلة والتخلف، وفي تواصلهم مع المشروع النهضوي العربي في الحواضر العربية المزدهرة، وفي إيقاظهم للروح الوطنية المتوثبة، وحُرقتهم للحاق بأشقائهم العرب الذين تهيأت لهم أسباب العلم والمعرفة. لذا كان هؤلاء الرجال هم من أدخل للمنطقة التعليم والصحافة والمسرح وفنون المقالة والقصة والنقد، كما فعل عبدالله الزايد مثلاً من خلال جريدة «البحرين» التي أصدرها في نهاية الثلاثينات واستمرت في الصدور لمدة 6 سنوات. وكان على هذا النفر من رواد التنوير الشجعان أن يواجهوا عسف المستعمر واضطهاد المؤسسات المحافظة والجهلاء من أبناء قومهم. ففي الكويت اضطر فهد العسكر بعد أن اشتدت عليه التهجمات إلى العزلة وعاش في غرفة مظلمة منطوياً على نفسه حتى مات وهو لم يزل في الثلاثينات من عمره، ومثله فعل صقر الشيب الذي اضطره سفهاء القوم إلى أن يلزم بيته حتى وفاته. وفي الإمارات ضايق الإنجليز الأديب مبارك بين سيف الناخي وطالبوا بإبعاده، ومات المصلح البحريني الشيخ عبدالوهاب الزياني كمداً في منفاه بالهند، وتشرد عبدالله الزايد سنوات عدة.وما يقال عن هذه البلدان قد يصح على المجتمعات الخليجية الأخرى كالمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان وقطر. هذه العلامات البارزة في تاريخنا الثقافي هي رصيد لمثل التنوير والنهضة والتحديث والعقلانية. ومن أسف أن كتاباتهم ومراسلاتهم، بما ذلك المراسلات بين بعضهم البعض كمراسلات مبارك الناخي مع الشيخ الزياني أو مراسلاتهم مع رموز النهضة في العالم العربي كمراسلات عبدالله الزايد مع أمين الريحاني أو مراسلات الناخي مع المفكر شكيب أرسلان، هذه المراسلات ما زالت مجهولة وغير متداولة. فهل تأتينا النخوة لنفعل شيئاً مفيداً في هذا السياق قبل فوات الأوان؟!
صحيفة الايام
27 ابريل 2009