بكل تأكيد أشاع إعلان العفو والإفراج الذي أصدره جلالة ملك البلاد حمد بن عيسى آل خليفة منتصف الشهر الماضي عن 178 من المحكومين والموقوفين على خلفية بعض القضايا الأمنية خلال الأشهر الأخيرة، أجواء إيجابية كبيرة باتجاه تهدئة الأوضاع في الوطن، أفصحت عنه مسيرات الفرح التي طافت مختلف شوارع ومناطق البحرين، بعد أن أثار تصاعد وتيرة الأحداث مخاوف وهواجس حقيقية من عودة أجواء الاحتقانات إلى الشارع البحريني مجددا، ولكن إرادة جلالته أعادت الأمور إلى حالة من الهدوء والاستقرار التي نعيش أجواءها حاليا، مما يفرض على الجميع سلطة سياسية ومؤسسات مدنية وجمعيات سياسية مسؤولية كبرى في كيفية توظيف حالة الانفراج هذه والبدء بأخذ يد هذا الوطن وشعبه إلى حالات جديدة من التلاحم والانسجام والوحدة بين مختلف مكوناته، لتتضاءل أمامها كل الخيارات الأخرى المتربصة بمسيرتنا الحضارية.
وباعتقادي أن دعوات الحوار التي انطلقت إبان زحمة الأحداث الأخيرة وتصاعد عمليات العنف المتبادلة، قد أتت بعضا من أكلها في ما نشهده اليوم من حالات انفراج، وكان التعويل على الاستجابة لتلك المبادرات المخلصة سواء التي جاءت من قبل جهات سياسية أو شخصيات دينية ووطنية، وعلى رأسها مبادرة المنبر التقدمي، والتي طالبت بإطلاق سراح المحكومين والموقوفين والشروع في حوار وطني مسئول حول مختلف الملفات العالقة، مما أهلها لتحظى بترحيب منقطع النظير بين جميع فئات ومكونات شعبنا وقواه السياسية الحريصة على مستقبل ووحدة هذا الوطن وسلامته، وأن تسود لغة العقل والإيمان بوحدة مصيرنا المشترك والابتعاد عن كل مظاهر وأساليب العنف وإعطاء الحوار فرص لمناقشة كل القضايا العالقة والمؤجلة انطلاقا من احترام هيبة الدولة وقيادتها ورموزها، مما أهلها بأن تكون أرضية ملائمة للشروع في عهد جديد من إشاعة قيم التسامح والعمل بروح المسئولية والحرص على تطوير عملية الإصلاح بما يخدم مستقبل الوطن وتنميته وتقدمه.
فالمبادرة وعلى الرغم من كل ما تقدم لم تكن في منأى من ممانعة أو تشويش أو حتى تشكيك البعض، ممن يحاولون إخضاع العمل السياسي لمشيئتهم ولنزقهم ونزواتهم المريضة أو لمصالحهم الضيقة، وإن حاول أن يتظاهر بعضها بعكس ذلك، لكن أصحاب تلك المبادرة كانوا متفهمين جيدا حجم ردّات الفعل تلك بعقلية من خبر العمل السياسي في البحرين وعرف وعورة دروبه وقسوة منعطفاته.
وتبقى الانفراجة الأخيرة في مسيرة العمل الوطني مرهونة بمدى قدرة جميع الأطراف على مغادرة مواقعهم المتباعدة والاقتراب حثيثا إلى حيث يكون الوطن ومستقبله وأمانيه نحو تحقيق استقرار منشود تتبعه مصالحة حقيقة قائمة على الاحترام المتبادل وتعزيز عوامل الثقة والشراكة غير المنقوصة، مبتعدين عن تلك الحالة المرضية المزمنة من الصراع العقيم والنزف المستمرين، والتي علينا أن نعترف بأنها نجحت في إحالة أجواءنا المتفائلة بوطن سعيد وأيام جميلة إلى حالات من الكآبة والعتمة وانعدام الثقة في المستقبل بكل أسف، لنعطي من حيث ندري أو لا ندري مسوغا سهلا لمن ترتجف فرائصهم من مجرد ذكر كلمة إصلاح أو وحدة وطنية أو مستقبل مشترك، ليعيثوا في أرضنا تشطيرا وفي وحدة شعبنا فرقة.
من هنا فأن تطور العملية السياسية لدينا أو حتى انتكاستها لا سمح الله سيبقى رهنا بقدرتنا معارضة وسلطة سياسية على تحديد خياراتنا القادمة، بعيدا عن دعوات من لا يعنيهم أمر هذا الوطن إلا بقدر ما يستنزفون من خيراته لمصالحهم الضيقة، فهل سنرضى أن نكون نموذجا عربيا آخر للتمزق والتناحر لا سمح الله؟ في الوقت الذي أتاح لنا مشروعنا الإصلاحي الذي هو الأمل الباقي لنا كأمة أن ننسج معا مستقبلا ملؤه التفاني والإخلاص والعمل بمثابرة نحو تحقيق أحلامنا في المواطنة والبناء والتنمية، والتي يعرف الجميع أنها ستبقى حلما بعيد المنال طالما تمترسنا كل في صومعته ومعقله وطائفته وحزبه وقبيلته أو بين مريديه، وطالما تناسينا أننا أمة لها ذاكرة وتاريخ ناصع ومجيد، بنيناه بسواعد أبنائنا جميعهم على اختلاف فئآتهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، ودافعنا عنه في مواطن الشدة والرخاء دون منة.
فهي إذا مسئولية كبرى يجب أن نثق بقدرتنا على تحملها، وهي لن تتأتى من دون أن نبادر كل من موقعه بالتقاط حبل النجاة المتاح لنا الآن، وقبل أن يحين موعد آخر نجد أنفسنا فيه وسط أزمة أخرى ربما أشد عنفاً لا سمح الله، متناسين بذلك كل منغصاتنا والسعي لجعلها مواسم عمل وفرح دائمة، عبر حوارات تتسع للجميع دون استثناء حول كل معوقاتنا لتكون سماتها طول النفَس والصدق وبعد النظر والحكمة والعقل والتدرج في الحلول بمسئولية ومثابرة.