تشكلت الثورة الحديثة الرأسمالية الديمقراطية في الغرب بتحويل الريف من قرى نائمة، زراعية متخلفة، إلى قوى ناهضة تتغلغلُ فيها علاقاتُ العمل بالأجرة والمكننة، وبهذا تم جعل الريف يتبع المدن المتطورة.
كان هذا من الشروط الحاسمة لخلق الحداثة واكتساح الغرب العالم كله.
وفي روسيا توجهت الثورة الديمقراطية الرأسمالية الحكومية إلى هدم العلاقات الإقطاعية والتخلف والثقافة الدينية السحرية وكل ما يترتب عليها من بؤس فكري وتخلف سياسي.
وتبعها العديد من دول الشرق في نمذجة مماثلة.
لكن العالم العربي في نهضته إلى الوراء كرس سيادة القرية على المدينة، وهو أمر ناقض حتى مستوى التاريخ الماضي المزدهر الذي لم يبلغ هذه الدرجة من تبعية المدينة للقرية.
إن هذه العلاقة معقدة مركبة تحتاج إلى حشود من الدراسات من أجل فحصها وتجليتها، ولكن هنا بعض رؤوس أقلام لهذه الكارثة التي نتوغلُ فيها كما يمشي العميان نحو الجحيم.
إن الرأسماليات الحكومية العربية التي نشأتْ قامتْ على انقاضِ ليبرالية صغيرة هزيلة، نظراً لضعف الفئات الوسطى عن التجذر في الصناعات، وبالتالي كان وصولها إلى الأرياف محدوداً وأكثر هزالة من بـُنى هذه الفئات الوسطى الصناعية، فحافظتْ على عش الدبابير القروسطي، ومنتجاتهِ السحرية والخرافية، وعلاقاته المتخلفة الاجتماعية، واحتقاره للنساء وللديمقراطية والعقلانية.
كان يمكن للأديب الليبرالي المتشكل بين ثورة مصر في سنة 1919 حتى ثورتها في سنة 1952 أن يكون ليبراليا جذريا، وأن يحطمَ المنتجات الثقافية القروسطية ولكن كيف له السبيل إلى ذلك؟ وهل كان يقدر على ذلك فكريا وسياسيا؟
لم يتخذ قادة الثورة الأولى الليبراليون هذا القرار، وهم الذين كانوا في الخندق النضالي الأول ضد التبعية والتخلف، لقد زاوجوا بين رعاية الفراخ الإقطاعية الريفية بمنتجاتها السابقة الذكر وبين القطن وتصديره وبين استعباد الفلاحين والنساء، وإبقاء ثقافة الدين السحري ومنتجاته الغيبية تسمم التطور.
ولكن المنتجين الثقافيين لم يكونوا أكثر تطوراً من قادة السياسة، وتراجعتْ ليبراليتهم وعلمانيتهم وصدأتْ سكاكينُ التحليلات الفكرية القاطعة للشوك العتيق الذي يعوق الزراعة على مستوى الثقافة والسياسة والاجتماع، فتحولت كتاباتهم إلى بكاء على الفلاح ونوح على أيامه ومستقبله، أو عروض تسجيلية فوتوغرافية لحياته أو لظروف المدينة وهربت التحليلات عن رؤية الماضي ووضعه على سكة الأرض الموضوعية وصراع الطبقات فيها، فظلت كائناته ترفرفُ بأجنحتِها في السديم السياسي، وتقررُ المصائرَ، وتخفي علاقات الصراع على الأرض، وأهمية إنجاز مهمات تحرير الأرض والدين والفلاح والنساء، التي تمهد لحرث الأرض لرأسمالية صناعية جذرية تزيلُ الحشائشَ الصفراء من الحقول.
ولم تـُعط الرأسمالية الخاصة المصرية فرصة طويلة لكي تشتغل على المسرح الاجتماعي، فقد جاء الريفيون من الجيش وخلقوا ثورة أخرى، ظهرت على أسس مغايرة، وتستند إلى شموليات غائرة، وقد جاء الرأسمالي الريفي المتخلف ليفرض مقاييس اجتماعية أقل كثيراً من ديمقراطية المرحلة الليبرالية السابقة، كان أكثر وطنية ولكن هذه الوطنية من أجل أن يُبعد أثر الغرب الديمقراطي الضار، فهو خائف على العائلة المتعددة الزوجات، وعلى الدين وعلى المنتجات الثقافية العتيقة المنتهية الصلاحية، ويرفض التعددية والعلمانية والديمقراطية، ويريد كذلك أن يطور الاقتصاد، ولكن تطوير الاقتصاد بمثل هذه العقلية يعني تقديمه للبيروقراطيين يتلاعبون به، فهو رغم حديثه عن الثورة لم يكن ثوريا، لأن الريف لا يقود ثورة، بل يقضي عليها.
حين نفحص تاريخ الضباط الأحرار والقرى التي جاءوا منها، وأفكارهم القروية العائشة في العصور الوسطى، سنجدهم بعد ذلك تحولوا إلى المهيمنين على المدينة وجعلها قرى مفككة متخلفة.
فقد نخروا الفوائض وأسسوا الشركات واستولوا على العقارات وكونوا الأحزاب الحكومية المسيطرة على الحكم، وكان الأديب منهم رومانسيا يحن للقرية، ويكتب روايات للمراهقات العفيفات، وبهذا فإن أدوات العقلانية التحليلية للواقع، وكشف صراع الطبقات المتواري المضبب في الأغاني الحماسية الوطنية، قد ألغيت، وتمت مصادرة النقد العميق والحفر العلمي في المنتجات الفكرية المعرقلة للتطور، بل تمت الإضافة إليها وأخرجت غيلانها من المقابر، وُوسع انتشارها في الحياة اليومية وكثرت العفاريت في الشوارع، وتوحدت مع “البلطجة” السياسية، وأهدرتْ دم المواطنين، وجُعلت المحاكم أدوات لاعتقال العقول ومحاكمة الفكر الحر وللدخول في ضمائر الناس، وتمت إعادة الحروب الطائفية والدينية وغيرها من ظاهرات العصور الوسطى البغيضة.
ليس ثمة دهشة في أن يُكملَ الطائفيون المسيرة المظفرة للضباط الأحرار، لضرب العقلانية والحرية، لقد جاءوا فوق تراث غزير من ثقافة القرية وتكميم الأصوات واحتقار النساء وإعلاء الخرافة، وهيمنة الشرطة، وسواء كانوا في أجهزة الحكم أم خارجه، فإنهم يرفضون أن يبتعدوا عن الهيمنة على عزبة مصر، فقد أعطيت لهم ولأولادهم وأحفادهم إلى أبد الآبدين، فلم يكف الريف عن تدمير نفسه فقط والهجرة من الأرض بل حول المدينة نسخة منه، نسخة تغرق يوميا في تخلفه.
صحيفة اخبار الخليج
25 ابريل 2009