كتاب مثل «طوق الحمامة» لابن حزم يشكل مرجعاً يعتد به في معرفة الطريقة التي تعبر بها مشاعر العاطفة عن نفسها، بل إن بعض فصوله مدعاة للدهشة، حين يغور في أعمق طبقات النفس البشرية، واصفاً نشاطها حين يقع أحدنا، امرأة كان أم رجلاً، في الحب. لكن هذا الكتاب يدخل في نطاق ما ندعوه «الأدب الكلاسيكي». إنه كُتب في زمن الهوينى، زمن البطء، يوم كانت الحياة أبسط وأقل مفردات وتفاصيل. ولا شك في أن البيئة التي عاشها ابن حزم في فترة ازدهار الحضارة العربية – الإسلامية في الأندلس قد وفرت ذلك المناخ الذي أنتج كاتباً رقيقاً عذباً مثل ابن حزم، وكتاباً شيقاً، عميقاً مثل «طوق الحمامة». لكن ماذا عن المشاعر والعاطفة في زمن اليوم، في عصر السرعة والاستهلاك الوفير وطغيان المعايير المادية. كيف تفصح المشاعر عن نفسها، كيف يعبر المحبون عن مشاعرهم؟ وهل صحيح أن عاطفة الحب واحدة على تعدد الأزمنة والأمكنة تأخذ الصورة نفسها من التجليات، أم أن لكل زمن شكل حبه الخاص به؟ أجوبة أو محاولات أجوبة على مثل هذه الأسئلة نجدها عند الباحث الألماني إيريك فروم الذي اهتم بدراسة النشاط العاطفي من زاوية علاقته بالتحولات الاجتماعية، مركزاً على الفكرة التي ترى أن عصر الاستهلاك أفسد المشاعر، أو حولها هي الأخرى إلى قيمة استهلاكية. يرى فروم أن الحب كان دائماً محل تجاذب بين «حب حقيقي وأبدي» و»حب زائف وزائل»، لكن في عصر الاستهلاك والإعلان وتسارع وتيرة الحياة يسعى «إريك فروم» لتحديث مفهوم الحب أو معناه. جميع الناس عطشون للحب. إنهم يذهبون للسينما لرؤية أفلام عن قصص الغرام السعيدة أو التعيسة، يستمعون إلى الأغاني العاطفية التي تحكي عن الحب، يكتبون خواطر وأشعاراً وحكايات عن الحب. لكن المشكلة في رأيه أن أحداً لا يطرح على نفسه سؤال ما إذا كان يتعين عليه أن يتعلم كيف يحب. كل الناس تريد أن تُحَب لا أن تُحِب، يريدون من يحبهم ولا يولون العناية ذاتها لأن يحبوا هم آخرين، أي أن يكونوا قادرين على الحب. ينظر فروم للحب بوصفه خلاصاً، بوصفه الحل الوحيد لمشكلة الإنسان الذي يشعر بقلق الانفصال، الحب المكتمل الذي يؤدي إلى الاتحاد المفضي ولاكتمال الشخصية الفردية للشريك ولا يطغى عليها. «إن مفارقة الحب تكمن في أن شخصين يصبحان واحداً مع بقائهما اثنين». وتنقل مؤلفة كتاب «فخ الجسد» عن المؤلف قوله: «الحب نشاط وليس انفعالاً فاتراً، إنه مشاركة وليس مجرد أن نترك أنفسنا كي نؤخذ. هو عطاء بشكل جوهري وليس مجرد أخذ». بل إن إحدى مفارقات الحب في حالات تجليه المثلى أننا لا نكاد نفطن من منا يأخذ من الآخر ومن منا يعطي الآخر، ولا نفطن ما الذي نعطيه وما الذي نأخذه، وأين ينتهي العطاء ليبدأ الأخذ أو العكس، إنها حال من التداخل الذي يبلغ حدود الاتحاد القائم على شراكة ناضجة يتناوب العقل والقلب في ضمان ديمومتها.
صحيفة الايام
25 ابريل 2009