المنشور

في البحث عن الهوية الجامعة


الأربعاء والخميس الماضيين عقد معهد البحرين للتنمية السياسية مؤتمر التنمية السياسية الأول تحت عنوان «الهوية في الخليج العربي.. التنوع ووحدة الانتماء». وكان اختيار العنوان والتوقيت موفقين تماماً إنْ لجهة تطورات الأوضاع والمتغيرات الداخلية والتحديات التي تواجهها منطقة الخليج وبلدان مجلس التعاون خصوصاً، أو للمتغيرات العالمية التي بدأت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى الأزمة العالمية الحالية الآخذة في التفاقم.

وإذا كانت الهوية تعني وعي الإنسان لذاته ومطابقته لها، وهي الصورة المتخذة ذاتياً وسط كل ثراء وتنوع علاقات الذات بالعالم المحيط، فإن تطورات العولمة، خصوصاً في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري، بيّنت ظاهرتين متضادتين في تطور اتجاهات تحديد الهوية والانتماءات. ففي غرب أوروبا، وبعد قيام الاتحاد الأوروبي، تطورت المواطنة بشكل عابر للقوميات نحو المواطنة الأوروبية. أما في فضاء الاتحاد السوفييتي الاتحاد اليوغسلافي وتشيكوسلوفاكيا، فقد تفتت الهويات المبنية على أساس أممي إلى قومية تبحث في الماضي عن ضمانات المستقبل.

وإذا كانت بلدان مجلس التعاون الخليجي قد وجدت في تنوعها السكاني مصدر ثراء بسبب تلاقي الحضارات والثقافات المختلفة وتلاقحها، فإن الخلل السكاني المتنامي بشكل فاضح أصبح يشكل خطراً جسيماً على هوية هذه البلدان. كما أن ظروف التطور الاجتماعي السياسي في هذه البلدان أحدث فعله السلبي على اصطفاف الجماعات واختيارها الهويات والانتماءات المتقابلة لتحديد شكل ونوع العلاقات فيما بينها.

كانت البحرين الأسبق بين شقيقاتها إلى اكتشاف النفط وتشكل الطبقة العاملة الحديثة فيها. ولذلك فقد جاء تطورها أكثر تدرجاً، وكان يفترض أن يصبح وضعها الأكثر توطداً وتوازناً.
في منتصف القرن الماضي تمثل التناقض الرئيس في المجتمع بشكل أساسي بين الطبقة العاملة المحلية ورأس المال الأجنبي (شركة النفط)، وتترجم على المستوى الأوسع تناقضاً بين الوعي الوطني والقومي المتصاعدين في مواجهة الاستعمار البريطاني. ورغم تمارين المواجهات الطائفية حتى بداية خمسينات القرن الماضي، وممارسة سياسة ” فرّق تسد ” الاستعمارية، إلا أن التحولات الاقتصادية الاجتماعية الجارية في أحشاء المجتمع سرعان ما ذوّبت الفوارق الطائفية والقومية ووحدة العمل والأنشطة التجارية ممثلي الطوائف والإثنيات في بوتقة وطنية واحدة.

لقد وعى الشعب ذاته الوطنية وحدد هويته البحرينية على أساسها. وبفضل النضال المرتكز على قاعدة الوحدة الوطنية أنجز الاستقلال الوطني العام 1971 .  كما أجمع شعب البحرين على عروبة بلاده في وجهة الإدعاءات الإيرانية. لكن الاستعمار البريطاني زرع عوامل النعرات الطائفية وأبقاها في أكثر المناطق حساسية: في تقاسم النفوذ في الإدارة العليا للدولة وفي مؤسسات العمل الكبرى، والأهم في بعض الكوادر «الوطنية» التي نفخ فيها من روحه. ففي يوم كارثي قد تأتي هذه النبتة أكلها. وبالفعل، تحقق ذلك يوم تحوّل التناقض إلى داخلي – داخلي. ووجدت أرضه الخصب في طريقة الاستحواذ التي جعلت من توزيع الخيرات المادية أكثر تفاوتاً. ولحماية هذا النمط من التوزيع نشأت الحاجة إلى التمترس الاجتماعي، بما في ذلك خلف قسم غير قليل ممن يطالهم الإجحاف. الفتنة النائمة استيقظت.. لعن الله المستعمر.

تبعاً للظروف الاقتصادية الاجتماعية تتراجع أو تتقدم أشكال الوعي الاجتماعي. وفي هذه الحالة تراجعت الذات الوطنية لتسمو الذات الطائفية عليها. ولا بأس أن يفعل العامل القومي بتفعيل الامتيازات، فبذرته موجودة. حدث ذلك بأشكال أسوأ في بلدان أخرى. ففي جنوب إفريقيا العنصرية تراجعت الهوية الاجتماعية الأرقى إلى أكثر أشكال الهوية بدائية – الهوية النفسية الطبيعية. وأدت سياسة الفصل العنصري (الأبارتايد) إلى أن يجد الإنسان الأسود ذاته وحمايته بين بني جلدته وحسب. ورغم كل التعرجات والمخاضات، إلا أن إنجاز المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية أصبح يساعد في تغيير الوعي الاجتماعي وتحديد الهوية الوطنية.

ظروف سنوات التسعينات في البحرين زيّفت الوعي الاجتماعي إلى حدود بعيدة. حينها غالباً ما أجاب الناس على سؤال الاجتماعيين «من أنا» بإجابات من نوع: «أنا لا أحد»، ” أنا لست مهماً لأحد “.  

وللخروج من هذه المعاناة القاسية وفي محاولة لإعادة الاحترام للذات لجأ الشباب خصوصاً إلى الهوية السلبية لتأكيد الذات في مقابل الضد، حيث ينقسم العالم المحيط إلى «جماعتنا» و«وغير جماعتنا». وفي هذا الحال تتحول الحالة الطائفية إلى تعبير عن الهوية وتسمو فوق الهوية الوطنية. ولأن شكل وعي الذات هذا من أدنى مستويات الوعي الاجتماعي؛ لذلك فهو يترافق قبل كل الشيء مع الماضي الذي يقدم للشباب على نحو مثالي (التقليدية).

 تتلاءم الهوية السلبية في واقع الأمر مع كبار السن بنظراتهم القديمة إلى العالم المحيط. هؤلاء قلقون تحت شعور تهديد مكانتهم الاجتماعية والدينية والسياسية مع عملية التطور التاريخية، في الوقت الذي تقترب قدرتهم على الحياة النشطة من نهاياتها. لكن الهوية السلبية لا تتناسب أبداً وتطلعات الشباب الذين أصبحت قيم النجاحات الشخصية في زحمة السوق بكل وطأتها في واقعنا المعاش تشكل المكون الأكبر في تحقق ذواتهم. لكن الهوية السلبية تحقن فيهم حقنا. ويسهّل هذا الأمر من الجهة الأخرى حنين بعض قوى الحكم إلى إدارة الأمور بالطريقة القديمة المضادة لعملية التطوير الديمقراطي. وعندما تأتي الإصلاحات، خصوصاً في ظل الأزمة العالمية الحالية، مركزة على إطلاق آلة السوق العمياء من دون تفعيل إستراتيجية اجتماعية واضحة المعالم، فإن الديمقراطية لا تفعل سوى إفساح المجال لانتعاش الهوية السلبية تعبيراً عن القلق. العاجزون عن طرح «أصول» معينة (استثمارات أو مهارات أو مجرد قوة العمل) في السوق، ومع حلول قشور الوعي الاجتماعي محل الوعي الاجتماعي الحقيقي لدى فئات واسعة من الشباب العاطلين عن العمل والواقفين في طوابير الإسكان وأصحاب مشروعات الزيجات المؤجلة، وكذلك الذين يواجهون أبواباً موصدة أمام الترقي الوظيفي على أساس التأهل والكفاءة، فإن هؤلاء يعتقدون بوجود حمايتهم لدى قوى عاجزة هي الأخرى عن طرح البديل، ويصبحون أكثر جاهزية للتشبع بالهوية السلبية بكل ما تحمله من قوة تدميرية على الشباب أنفسهم وعلى المجتمع وحتى على استقرار النظام الاجتماعي السياسي.

إن مسائل التناسب بين الهوية الفردية والاجتماعية وعلى أي قيم تؤسس «نحن» الملموسة والجامعة، مهمة جداً، سواء للقدرة على التحديد الذاتي للفرد والجماعات، أو للتربية الاجتماعية والتنمية السياسية. وهي تطرح نفسها بإلحاح أمام قوى الإصلاح الديمقراطي الحقيقية أكانت في السلطة أم المعارضة الديمقراطية.