بدأت عدوى الخوف التي أصابت المتعاملين في أسواق العقار والمال والصيرفة، تنتقل إلى القطاع الأعرض من المتعاملين في التجارة الدولية، وكلما أوردت المقارنة بين كساد ثلاثينيات القرن الماضي والكساد الحالي دبت القشعريرة في أوساط هؤلاء المتعاملين، إذ يكفي أن نتذكر أن انهيار التجارة الدولية نتيجة لانهيار الطلب العالمي، أدى لانهيار الأسعار وإلى هرولة الحكومات وراء إجراءات أكثر إضراراً..الحمائية، أي تعلية أسقف شرائح الضريبة الجمركية.
والنتيجة، أن بدأت التجارة الدولية تتراجع كما لم تتراجع في فترة ما بعد الحرب الكونية الثانية. فقد أظهرت بيانات منظمة التجارة العالمية التي نُشرت أواخر شهر مارس الماضي، أن التجارة الدولية ستنخفض بنسبة 9٪ هذا العام، وذلك لأول مرة منذ عام .1982 فلقد كانت التجارة الدولية تنمو خلال الفترة من 1990 إلى عام 2006 بواقع 6٪ سنوياً، متخطية بصورة خاصة معدلات نمو إجمالي الناتج العالمي التي كانت عند متوسط 3٪ سنوياً.
ومنذ الآن سنشهد اتجاهاً معاكساً، حيث يتراجع نمو الاقتصاد العالمي ولكن التجارة الدولية تتراجع بمعدلات أسرع منه. والسبب في ذلك ليس فقط الهبوط الحاد في الطلب العالمي، وإنما موجة الحمائية التي هبت منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، حيث اتخذت 17 دولة من العشرين دولة التي شاركت في قمة العشرين الأولى التي عقدت في نيويورك في شهر نوفمبر من العام الماضي، 47 إجراءً حمائياً ‘لتقليم أظافر’ وارداتها السلعية، وذلك بحسب مصادر البنك الدولي.
وإذا كانت الإجـراءات الحمائية التي اتخـذت إبان أزمة الكسـاد العظيم (1929-1934) قد هيمنت عليها القيود الكمية (Quantitive Restrictions)، حيث رفعت الولايات المتحدة حوالي 900 فئة جمركية – فان الإجراءات الحمائية الحالية أكثر تعقيداً، إنها أقل ميلاً لزيادة التعرفة الجمـركية وأكثـر ميلاً لاستخدام القيـود غير الكمية (Non-Quantitive Restrictions) مثل تعقيد تصاريح التوريد، والتعلل بالإغراق لزيادة الرسم الجمركي. كما لجأت الدول الغنية إلى التعلل بما أسمته التمييز في المعاملة فيما يتعلق بترسية عطاءات ومناقصات المشتريات الحكومية، وتقديم الدعم (Subsidy) إلى صناعاتها ‘العليلة’. واليوم هناك 57 نوعاً من أنواع الإجراءات الحمائية. وكما هو واضح فإن 85٪ من الدول التي شاركت في قمة العشرين الأولى، لحست تعهداتها بعدم اللجوء إلى الحمائية تجنباً لتعميق الأزمة، ولولا الاتفاقيات متعددة الأطراف، وتحديداً اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية في يناير ,1995 لكانت الإجراءات الحمائية المتخذة أشد وطأة على حجم المبادلات التجارية الدولية.
وما فاقم الوضع هو تراجع حجم التمويل المصرفي والمالي (ضمان وتمويل الصادرات والورادات) بسبب الأزمة المالية، حيث قُدِّر حجم النقص في هذا التمويل بحوالي 100 مليار دولار كانت توفر وسادة ضمان وتمويل لحوالي 90٪ من المبادلات التجارية الدولية. وكان انعكاس هذا الواقع على بعض الدول مثل الأكوادور وفرنسا وإندونيسيا والفلبين وجنوب أفريقيا بواقع 30٪ أو أكثر بحسب البنك الدولي.
وإذا كانت الدول المتقدمة التي تعولمت اقتصاداتها بصورة غير مسبوقة تمثلت في ما يسمى بالتخصص العمودي “Vertical Specialization” أو شبكة التزويد المُدَوَّلة “Global Supply Chains”، حيث يشترك عديد المنتجين لقطع الغيار ومدخلات السلعة النهائية من بلدان مختلفة لإنتاج السلعة، ما يجعل دول هذه الاقتصادات تحسب حساباً للأضرار الارتدادية لإجراءاتها الحمائية، فإن الدول النامية ذات الاقتصادات الأقل عولمة تجد نفسها مضطرة للجوء للرسوم الجمركية لمواجهة مشكلة اختلال موازينها التجارية. فلقد رفعت الأكوادور تعرفتها الجمركية على 600 سلعة، ورفعت روسيا ضريبتها الجمركية على السيارات المستوردة، ورفعت الهند ضريبتها الجمركية على بعض أنواع الحديد. كما توسعت الدول النامية في الإجراءات الحمائية غير الكمية. فقد حددت إندونيسيا مثلاً 5 موانئ لاستيراد بعض أنواع السلع مثل الأقمشة والأحذية والألعاب عبرها فقط. كما فرضت الأرجنتين متطلبات ترخيص توريد تمييزية لقطع غيار السيارات والملابس والتلفزيونات والألعاب والأحذية والمنتجات الجلدية بعد أن كان الحصول على هذه التصاريح سهلاً وفورياً. كما لجأ بعضها الآخر لمنع توريد سلع معينة بدعاوى الصحة أو البيئة، مثل الصين التي أوقفت استيراد عدد واسع من المنتجات الغذائية الأوروبية مثل لحم الخنزير الأيرلندي ومشروب ‘البراندي’ الإيطالي ومنتجات الألبان الإسبانية، فيما منعت الهند توريد الألعاب الصينية.
أما الدول الغربية فكان سلاحها خلال الموجة الحمائية الدولية الجديدة، الدعومات “Subsidies”، وهو سلاحها التقليدي الذي تجيد استخدامه حتى في الأوقات الاعتيادية من انتظام وصعود الدورة الاقتصادية. لما كان الأمر كذلك فإن إعادة تأكيد زعماء مجموعة العشرين في قمتهم الثانية التي عقدت في لندن في الثاني من أبريل 2009 على أهمية عدم الانزلاق إلى الحمائية، ليس لها معنى ما لم يتم استئناف مفاوضات جولة الدوحة المعطلة ومنع الدول من التمادي في إجراءاتها الحمائية الكمية وغير الكمية كتلك التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي مؤخراً والمتمثلة في تقديمه الدعم لمصدري الزبدة والأجبان والحليب المجفف .
الوطن 19 ابريل 2009