المنشور

الفــّـــن لغـــدٍ أجمــــل


في الثلاثين من شهر مارس الماضي، فقدت الساحة الفنيّة العربية الممثِّل الكوميدي السوري ناجي جبر ‘ أبو عنتر ‘، والذي جسدّ بشكلٍ بارعٍ هذه الشخصيّة الفريدة في المسلسل الكوميدي الاجتماعي الشهير ‘ صحّ النوم ‘ مع الفنانيّن الكبيرين دريد لحّام (غوّار الطوشه) والراحل نهاد قلعي (حسني البورظان)، وذلك في سبعينات القرن الماضي.

لقد استطاع هذا المسلسل (الذي تم تحويله لاحقاً إلى فيلم بالاسم نفسه)، بشخصيّاته العفوية الطريفة، ولغته المميّزة، وأحداثه المسلِّية المتصاعدة درامياً، التغلغل في وجدان المشاهدين، وصارت التعليقات والجمل المحبّبة على القلوب التي كان يطلقها ‘ أبوعنتر ‘ تتردّد على ألسن الناس البسطاء، واحتلّت مكاناً عزيزاً في قلوب الصغار والكبار.

ويرى الكاتب السوري نضال نعيسة أن ‘ شخصية أبي عنتر، ابن الحارة القبضاي المحافظ على الشرف والأخلاق، والذي لا يهادن في قضايا الرجولة، والشرف، والإباء ‘، هي واحدة من أبرز شخصيات المسلسل، نظراً ‘ لما تستجيب لعمق ونوازع ومكنونات لدى المتلّقي من ميل غريزي للفتوّة والقوّة وحب الخير والبطولة ونصرة الضعفاء، رغم أنها كانت تُظهر أحياناً جانباً الرعونة والطيش والتهوّر البريء المضحك ‘، ويستغلّها غوّار لغايات شخصيّة من أجل إلحاق الهزيمة بالبورزان(1)’.

لقد كان الفنّان ناجي جبر، على حد تعبير الناقد الفنِّي محمّد منصور، ‘سريع الاستجابة لكل تجربة جديدة تُعرض عليه، فلم يكن يشغل باله بفلسفة الأمور وأدلجة الأفكار، بل كان يتحمّس بحبٍ، معتبراً أن مهمّته كممثلٍ تنحصر في الاقتراب من الشخصيّة، والإيمان بها، ولهذا نجح في أن يجعل موهبته وقوّة حضوره، حالةً قابلةً للاستثمار متى ما وجد الكاتب الجيِّد أو المخرج الذكي اللمّاح’. ومع أن شخصية ‘أبو عنتر’ هي ‘نموذج مكرّر لصديق البطل في السينما العربية’، والتي كانت وظيفته الدرامية تتلخّص في أن ‘ يستنطق هموم البطل’، إلا أن ناجي جبر تمكّن، بفضل إخلاصه للشخصية وتماهيه معها، أن يوظِّف طاقاته الإبداعية في الارتقاء بهذا النموذج إلى شكلٍ من أشكال ‘ العلاقة الثنائية مع البطل’، والتي شكلّت فيما بعد بديلاً ناجحاً لثنائية المرح: غوّار – حسني أفندي [2].

إن هذه الواقعة تستلهم ذكرى الفنان الكوميدي الراحل عبدالمنعم إبراهيم الذي شكّل ثنائيات فنيّة جميلة في معظم أفلامه السينمائية، حيث كانت له شخصيّته المميزة، وبديهته السريعة غير المتوقعة المثيرة للضحك، إذ يفاجئ المشاهد في كل لحظة بخفة ظله، وحركاته دون تصنّع أو إسفاف، فكان يضفي على الفيلم نكهةً خاصةً جعلته في مصاف العمالقة الذين تركوا بصمات واضحة في السينما المصرية.

لماذا إذن لا توجد قنوات أو برامج تلفزيونية مخصّصة لعرض الأعمال الكوميدية العربية واستثمارها مادياً؟ في بريطانيا مثلاً هناك برنامج تبّثه محطة (BBC1) على الهواء مباشرةً على مدار عشرين عاماً باسم ‘فسحة للضحك’ (Comic Relief)، حيث يتم الاستعانة بأشهر نجوم التلفزيون والغناء والكوميديا في البلاد ليقدِّموا أحد أطول الاستعراضات الكوميدية والغنائية الحية المتواصلة في العالم، ويجري عرض الوصلات الكوميديّة الصارخة إلى جانب المشاهد والتقارير التلفزيونية المؤثرة عن الموضوعات الإنسانية المؤلمة، وذلك بهدف حّض المشاهدين على تقديم التبرعات المالية لضحايا الفقر والمرض والحروب في العالم.

ورغم أن الفنّانين لا يتقاضون أي عائد مادي عن اشتراكهم في البرنامج المذكور، إلا أن الشعبيّة التي تحيط بالاستعراض الحي، تساهم في تعزيز نجوميّة بعضهم، وتذكِّر بمواهب بعضهم الآخر ‘، كما أن البرنامج حقّق حتى الآن ‘نحو 600 مليون جنيه إسترليني، ناهيك عن آلاف المشاريع الخيرية التي حسنّت حياة آلاف البشر في أرجاء العالم كافة (3)’.

لقد كان الممثِّل، والمخرج، والكاتب السينمائي الشهير وودي ألن على حقّ بقوله إن الظرفاء يجلسون دائماً إلى مائدة الأطفال، لأنهم لا يبتغون رسم البسمة على شفاههم فحسب، بل يوظِّفون فن الضحك الجميل لتأمين الغد الأفضل لهم، وجعل حياة الملايين أكثر إشراقاً وإغراقاً في التفاؤل والأمل!


 

 


[1] نضال عنيسة، أبو عنتر في ذمة الله، جريدة إيلاف، 1 / 4 / .2009
[2] محمّد منصور، رحيل ناجي جبر . . . قبضاي الشاشة السورية، ‘ أبوعنتر ‘ خريج السجون الذي أحبّه الكبار والصغار، جريدة القدس العربي، 4/4/.2009
[3] عشرون سنة على البداية وأكثر من نصف بليون جنيه إسترليني: ‘ بي بي سي ‘ في يوم استعراضي مع الضحك، جريدة الحياة، 13/3/.2009