عبّر تاريخ الإسلام التأسيسي عن العلاقات الريادية العظيمة بين الجنسين، جنس الذكور والإناث. في لحظاتِ الحدس والتبصر بتشكيلِ الثورة الإسلامية اجتمعت ثلاثُ شخصياتٍ مكونة أولَ خليةٍ لتفجير تلك الثورة في ظروفِ العسرِ والتخلف، الشخصية الأولى هي شخصية نبي الإسلام قائد تلك الثورة، والثانية هي ورقة بن نوفل، والثالثة هي السيدة خديجة. النبي الشاب هو متلقٍ ومستمعٍ ومدعومٍ من تلك الشخصيتين، ورقة يقدمُ معلومات وأرشيفاً لما أحدثهُ الأنبياءُ السابقون من تغيير لمجتمعاتهم، وخديجة تقدمُ الاشتراكَ المالي والدعم الاقتصادي. لا شك أن السيدة خديجة هي مجمعة الجانبين، ورقة والنبي، وصانعة لتلاقحهما الفكري، الذي لعبَ دورَ المفجر للعملية التاريخية الهائلة فيما بعد للجزيرة العربية والمنطقة والعالم. كان ثمة فارقٌ كبيرٌ في العمر بين خديجة والنبي، وقد عرضت السيدة الثرية اقتراحاً على النبي بأن يتزوجها، ضاربة العلاقات المالية والاجتماعية عرض الحائط، في خطوة غريبة تسبقُ الزمانَ والمكان! لماذا لم يقمْ نبي الإسلام بالاعراض عن مثل هذه المرأة، هل كان طامعاً في مالها؟ هل كان عارفاً بشكل استباقي لفقر دعوته وضرورة المال لها؟ لم يكن ذلك كله، بل كان يتوجه لكشف وتطوير العناصر الإيجابية الفاعلة في كلا الشخصيتين، في ورقة تحريك معرفته وسجلاته عن تارخ الأديان – الثورات السابقة، ومع خديجة كان ثمة جوانب أكبر شخصية وعامة متداخلة بشكلٍ حميم، وأهمها تطوير الرسالة المشتركة لكلتا الشخصيتين: تفجير الثورة في بلاد العرب الغافية المتخلفة! تم إلغاء الفوارق العمرية والجنسية والمالية، لم يعدْ مهماً أن تكون شاباً فقيراً فتياً، أو امرأة متزوجة سابقاً وذات عيال، في هذه اللحظة النضالية العليا الخادمة للأمة والناس والتاريخ وكان المهم هو تشكيل هذه الخلية القائدة التي تجري فيها المساواة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تجابه عالم التفكك والتبعية باقتدار وانتصار. إذا حاولنا أن ننظر بمنظار غير ذكوري متجمد فسنجد أنها تجربة فريدة في تاريخ الثورات، فحتى في عصرنا الراهن كان وجود النساء في المكاتب السياسية الحزبية القائدة للتحولات معدوماً، ومُنكـراً ومرفوضاً، وكانت حتى عشيقات القادة والأمناء العامين للأحزاب متواريات، وملغيات من تاريخهم، وكأن ليس ثمة دور للنساء قيادي ورمزي! لكن في تاريخ الثورة الإسلامية التأسيسية سيبقى مكان السيدة خديجة محفوظاً ومقدراً. في تلك الظروف من البداوة والذكورية الساحقة!
فيما بعد سيدلي نبي الإسلام بشهادتهِ الموضوعية عنها، وفي لحظةٍ من سيادته السياسية والفكرية وبعد أن رحلت تلك الزوجة: بأنها دعمته إذا تخلى الناس وحتى الأهل عنه، وأنها أطاعته وأحبته وآمنت به الخ.. وحين كان يحدث ذلك الإنكار والتخلي من أقرب المقربين للمثل العليا المطروحة، وتقوم امرأة غنية بتوزيع ونثر أموالها على زوجها المحاصر المجاهد الفقير، فأي مكانة؟ ويضيف نبي الإسلام في شهادته حين غيب الثرى السيدة خديجة، ولم يعد طامعاً لا في مالها ولا في شد أزره، بأنها كانت الولودُ من بينِ كلِ نسائه! ليس هذا تعييراً للنساء بأنه لم يكن ولودات فبعض زوجاته أنجبن، ولكن دلالة المسألة هنا بأنها كانت ولودا مشغولة بالحمل والرضاع والتنشئة، وكذلك لم تفارق مهمات الحركة النضالية من دعم مالي ومن مساندة نفسية ومن دعوة، فجمعت أعباءً ثقيلة وهي في كل هذا العمر المتقدم، وأحسنت تنشئة أبنائها وكذلك الصبي، الإمام فيما بعد، علي بن أبي طالب الذي كان له بعد ذلك التاريخ المعروف في الإسلام، وابنتها السيدة فاطمة ومن سلالتها كان نضال الأئمة. ولهذا فإن عملية التصغير من المرأة ومن مكانتها هي جزء من التاريخ الاجتماعي التالي، حين هيمنت القوى الاستغلالية ورفعت أشكالاً وأعراضاً من الإسلام، مفرغة من ذلك المضمون، استناداً لسيطرتيها الذكورية والحكومية الاستغلاليتين. وبهذا فإن علاقة نبي الإسلام بالمرأة نموذجية، وهي التي يجب أن نراها في عمليات التمثل والتقنين، وهي بهذا علاقة لم تقنن تشريعياً وقرآنياً لأسباب أن الحركة السياسية لها قوانين موضوعية لا بد من مراعاتها في كل مرحلة. إن العلاقة الديمقراطية الإنسانية في العائلة المحمدية، لم تكن بقادرة على أن تصل للتشريع العام، فالدائرة العامة تخضع لمسارات مختلفة، بسبب حضور الرجال المكثف وسيطرتهم على الأوضاع، ولم تكن علاقة المساواة بين النبي والنساء، قادرة على أن تتحول إلى قانون في ظل ذلك التخلف العام. وكانت قد عرضتْ المسيحية نموذجَها على العرب وحاولت اختراق نسيجهم القبلي الذكوري الجامد من دون فائدة بسبب طرحها شكلاً للعائلة لم يكن العرب وقتذاك قادرين على استيعابه! وفيما بعد كرس المحافظون الجانب العام المرحلي، من دون أن يراعوا النموذج المحمدي الأسري. وقد عبر القرآن عن علاقات الصراع بين النساء المجددات والرجال المحافظين الذين كانوا يريدون استمرار نموذج الجاهلية في الزواج ونتائجه، فتم الاعتراض عليه في ظل سيادتهم، وازدادت هذه السيادة مع الفتوح وسيطرة الأسر على أموال المسلمين! وكانت السيدة خديجة نموذجاً شبه جاهز وطليعي في ذلك المجتمع، لكن ماذا نقول عن مثال السيدتين فاطمة وعائشة؟ لماذا فجر نبي الإسلام فيهما طاقات التحول، خاصة السيدة عائشة الزوجة الصغيرة من بين زوجات، لماذا صارت مرجعاً للشعر وتاريخ الإسلام والفقه؟ وفي تلك المهام الكبرى للنبي حصلت هذه الزوجة على كل هذه التطورات الفكرية ولم تـُعزل عن الثقافة والسياسة، ثم شاركت في صراعات سياسية كبرى، ومهما كانت اجتهاداتها التي كان للقادة الكبار رأي آخر فيها. ثمة رافدان في نشأة الإسلام التأسيسي: رافد الديمقراطية الشعبية بما يحتوي على تشكيل دولة جمهورية ديمقراطية، وتعاون بين الرجال والنساء، وتوزيع الفائض المالي على الفقراء، وهو الرافد المؤسس الذي تجسد خلال نصف قرن، ومثل الرمزية الإسلامية الحقيقية الباقية، وهناك الرافد الآخر رافد الهيمنة الذكورية والاستغلالين الحكومي الأسري والخاص، والتوسع في السيطرة على النساء واستغلالهن واستغلال العامة، وقد وظف هذا الرافد بعض النصوص ليؤكد سيطرته الأبدية على النساء والناس معرضاً عن رمزية الأسرة المحمدية ودلالاتها وهي المؤسسة لذلك التاريخ!
صحيفة اخبار الخليج
12 ابريل 2009