المنشور

طريقان أمام السودان..!


السودان بلد الإمكانات الكامنة والشعب الطيب، الذي لو حصل على الفرصة المناسبة والفسحة الديمقراطية، يكون بمقدوره الإتيان بتجربة رائدة، غنية ومتميزة في التنمية المستدامة، منطلقة من نمطِ حكمٍ مؤسساتيٍّ عصريٍّ، عماده التداول السلمي للسلطة، الشرط الأساس لتحويل السودان بالفعل إلى سلة الغذاء العربي وجعله قدوة ومثالا يحتذى به من قِبَل بقية الدول العربية.

 لعل سبب تفاؤلنا بالسودان الجديد المأمول، يعزو إلى مجموعة من العوامل، التي إن استخدمت بالشكل الأمثل لوفر السودان على شعبه الكثير من الجهد الضائع، نتيجة النزيف الاجتماعي الحاد ودوامة لا تنتهي من الصراعات، التي ما فتئت تشتت الطاقات السودانية هدراً لمصلحة فئة طفيلية / أنانية، على حساب المصلحة العامة لعموم الشعب السوداني. على أن تركيبة السودان الديمغرافية لا تسمح للتقدم الاجتماعي المرتجى والنجاح الاقتصادي المرجو، إلا بشرط مبارحة الدورة الجهنمية من أنظمة أحكام استبدادية / عسكرية وضرورة تشييد نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي، تتوزع فيه الحقوق والواجبات بين قومياته وإثنياته العرقية والدينية المتنوعة.
من الممكن تلخيص أهم العوامل الإيجابية المذكورة، التي يتصف بها السودان في  الآتي :

  • السودان أكبر بلد أفريقي وعربي من حيث المساحة، وعدد سكانه متوازن. له أهمية جيوبوليتيكية، كونه بلدا إقليميا.. بل قاري يقع في مفترق الطرق؛ قريب من المثلث الرابط بين القارات الثلاث. يطل على البحر الأحمر وحوض النيل، حاضناً بين ربوعه بحيرات غنية وأسرة متفرعة من النيل العظيم.
  • يملك السودان هكتارات واسعة من الأراضي الخصبة، بجانب ثروة زراعية وحيوانية تتجاوز إمكانية الاكتفاء الذاتي.
  • توجد في باطن السودان ثروة متميزة من الموارد الطبيعية، خاصة الإستراتيجية منها.
  • يتكون الشعب السوداني من مجموعات متقاربة من الإثنيات القومية والعرقية والدينية، جمعهم السلم الأهلي والعيش المشترك لأحقاب طويلة.
  • يتطبع الشعب السوداني بدماثة الخلق، الكرم والعلاقات الاجتماعية الودية المنفتحة.
  • تركيبته السيكلوجية متسمة بـ الانشراح، الروح الجماعية، التعاون والاعتدال. إضافة إلى أهم خصلة بشرية ؛ ‘الاحترام المتبادل’ فيما بينهم، حتى بين الخصوم السياسيين.. وهذه الأخيرة عنصر مهم للبناء والتنمية. ولكنها – للأسف- ميزة نادرة عند بقية العرب فيما بين النخب السياسية والمثقفة!
  • حيوية التجربة الثرية التي يملكها السودانيون في العمل التعبوي/السياسي والمشاركة في الحراك السياسي، خلال فترات متعددة من النشاط الوطني في تاريخه الحديث والمعاصر، إضافة إلى فعالية وجماهيرية القوى السياسية المتعددة المشارب، من اليمين إلى اليسار


 

ملّ الشعب السوداني من الأحكام الاستبدادية القاطعة والكابحة لتطوره الطبيعي. ويهفو الآن – أكثر من أي وقت مضى – لتأسيس نظام حكم مدني ديمقراطي، ينطلق من الحاجات الملحة للناس ويتناغم مع روح العصر
لعله من المفيد أيضا أن نعرج قليلا على تاريخ هذا البلد العريق، الذي يقع جغرافيا في نطاق إقليم ما يعتبره الآركيولوجيون والمتخصصون في الجغرافيا البشرية؛ مهد البشرية والإنسان الأول.
الاسم الحالي(السودان) كان يطلق على كل المنطقة جنوب الصحراء فالدولة المجاورة للسودان ( تشاد) كانت تسمى بالسودان الفرنسي. وقد رفض المتعصبون العروبيون (الشوفينيون) اسم السودان وطالبوا بأن يحول الاسم إلى ‘سنار’ وهم من يعرفون في تاريخ السودان الحديث بجماعة أبو روف.
يقع السودان في الجزء الشرقي من القارة الأفريقية مع اتصاله بالبحر الأحمر واحتلاله شطراً كبيراً من وادي النيل. وكونه يربط بين الدول العربية وأواسط أفريقيا جعله في ملتقى الطرق الأفريقية،علي اتصال دائم بجاراته.
يعود تاريخ إنسان السودان إلى العصور الحجرية ( 8000ق م – 3200 ق م). حين اتخذ أول خطواته نحو الحضارة. يرى علم الآركولوجيا أنه بتفحص الجماجم التي وُجدت لهؤلاء الناس يتضح أنهم يختلفون عن أي جنس زنجي يعيش اليوم. وكان سكان الخرطوم القديمة، يعيشون على صيد الأسماك والحيوانات بجانب جمع الثمار من الأشجار. أمـا سكان ‘الشهيناب’ بالضفة العربية للنيل، فإنهم يختلفون عن سكان مدينة الخرطوم القديمة، ولهذا تختلف أدواتهم الحجرية والفخارية. كانت حرفتهم القديمة الصيد، بجانب قيامهم بصناعة الفخار واستعمال المواقد والنار للطبخ. وبلاد السودان منذ سنة 3900 ق.م. هي المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا الممتدة من المحيط الأطلنطي غرباً إلي البحر الأحمر والمحيط الهندي شرقـاً.
أما السودان الحالي فإنه يقع في الجزء الأوسط من حوض النيل  (سودان وادي النيل)
تعتبر مملكة كوش النوبية أقدم الممالك السودانية، حين ظهرت اللغة الكوشية، لغة التفاهم بين الكوشيين قبل ظهور الكتابة المروية نسبة لمدينة ‘مروي’، التي تقع علي الضفة الشرقية للنيل شمال قرية البجراوية الحالية. وكانت مدينة ‘مروي ‘ عاصمة للسودان القديم ما بين القرن السادس ق.م. والقرن الرابع ميلادى، حيث ازدهرت تجارة الصمغ والعاج والبخور والذهب بين مدن الجزيرة العربية وموانئ السودان والحبشة. وكانت للسودان علاقات مع ليبيا والحبشة منذ القدم. وفي الآثار السودانية كانت ‘مملكة مروي’ علي صلة بالحضارة الهندية في العصور القديمة. وكان الإغريق يسمون البلاد الواقعة في مناطق السودان ‘أثيوبيا’. وقال هوميروس عنها أن الآلهة يجتمعون في السودان في عيدهم السنوي.
ومن أقدم الهجرات العربية للسودان هجرة قبيلة بلي اليمنية القحطانية قبل ألفي عام وإقامتهم في شرق السودان واندماجهم- فيما بعد- بقبائل البجا وتزاوجهم معهم، حيث أصبحوا جزءاً من مملكة الحدارب(الحضارمة)التي قضي عليها الفونج قبل أربعمئة عام بعد أن خلفت تاريخا طويلا من المجد للسودان واستطاعت الدفاع عن سواحل البحر الأحمر ضد غارات الأساطيل الأوروبية. دخل الإسلام واللغة العربية إلى السودان بصورة رسمية في عهد الخليفة عثمان بن عفان
الخلاصة إننا لا نضيف جديداً أن أفصحنا عن بديهة لا يختلف عليها اثنان من أن السودان حاله كحال بقية الدول العربية في حاجة ماسة إلى تحديث، عصرنة ودمقرطة بنية نظامه السياسي. النتيجة أن طريق الخلاص وإخراج السودان من الدوامة لا يستقر في مناكفة الرأي العام والشرعية الدولية. وإقامة ‘كرنفالات’التحدي المصطنعة والزهو بالخطابات الديماغوجية الرنانة وحركات ‘الصبينة’ السياسية.. بل الحل يكمن في العودة إلى الديمقراطية والركون إلى الشرعية الوطنية، بُغية تحقيق تطلعات الشعب السوداني. والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في من يعتلي سدة الحكم للفترة القانونية المحددة. وتنفيذ كل فريق سياسي لبرنامجه الانتخابي، بعيداً عن الهيمنة على بقية مكونات الشعب السوداني ‘الموزائيكية’ بهدف الاستحواذ الديني/القومي/العرقي والانفراد بالسلطة، سواء عن طريق الانقلابات العسكرية أو حكم المليشيات. أي المطلوب؛ تسييد حكم القانون المدني المعاصر..

    هل هذا كثير على الشعب السوداني الشقيق؟!


الوقت 11 ابريل 2009