يجري حديث عن “عولمة ” الفساد، فمفاهيم من نوع اقتصاد السوق من دون ضوابط، وحرية التجارة حتى أقصى حدودها، وقيم الفرد المثابر الذي يجري وراء الثروة بأي وسيلة وسبيل، تنعش مثل هذه الظاهرة وتعممها.
وفي المؤتمرات العالمية التي تناقش هذه الظاهرة يجري التأكيد على “عالمية” هذه الظاهرة، حيث لم يعد من الممكن التستر عليها، بسبب سهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات في هذا العالم المفتوح.
وتنشط جمعيات الشفافية ومكافحة الفساد التي صارت تدعو إلى الاعتراف بالفساد كظاهرة وعدم التستر عليه أو نفي وجوده عبر الادعاءات والتمويهات، والإقرار بأن هذا الفساد معوق أساسي من معوقات التنمية والتحولات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والدعوة لإشاعة ثقافة وطنية تقوم على بث الوعي والجرأة والشجاعة في كشف حالات الفساد والمتورطين فيها.
على أن الفساد ليس مجرد خلل إداري يعالج بإجراءات إدارية، رغم أهمية كل تدابير الرقابة على أوجه الإنفاق العام، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تعود إلى ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة في البلد المعني.
هذا يتطلب أن تدار الدول من قبل سلطات مختلفة ومستقلة عبر تدريب النخب على الأداء النزيه والحرص على حرمة المال العام، ووضع الحدود الفاصلة بين المال العام، العائد لما كان يطلق عليه في العهود الإسلامية الأولى بيت مال المسلمين، وبين المال الخاص.
لزوم الفساد هو تعميمه ليصبح نهجاً متبعاً يغرق فيه الكل، فلا يعود بوسع أحد أن يحاسب أحداً، طالما كان الجميع متورطاً فيه، ومن هنا جاء تعبير الفساد الصغير الذي غالباً ما يجاور الفساد الكبير ويستظل بظله.
فالاستخدام السيئ للسلطة يشيع حالة عامة على أساسها ينخرط صغار الموظفين في تلقي الرشى، فتصبح الظاهرة عامة شاملة.
ثمة رقم جدير بعنايتنا هو أن “إسرائيل” تحتل المرتبة العشرين بين دول العالم التي تتمتع بالشفافية في مجال مكافحة الفساد، بشكل يعطيها سبع درجات من عشر، فيما غالبية الدول العربية لا تنال في أحسن الحالات أربع درجات من عشر ودون ذلك.
منذ أربعة عشر قرنا صاغ الخليفة الراشد ذلك السؤال العظيم: “من أين لك هذا؟”، والذي بات في ما بعد بمثابة قاعدة قانونية لحفظ المال العام وحمايته من النهب ومنع سوء استخدام السلطة.
من يجاسر اليوم بطرح هذا السؤال العظيم؟