من الكواليس وقنوات الاتصال السرية، المباشرة وغير المباشرة، انتقل الجانبان الأمريكي والإيراني بحواراتهما إلى العلن على نحو دراماتيكي لم يكن أحد ليتوقع حدوثه قبل بضعة أشهر عندما كانت معطيات وعوامل دخولهما في مواجهة عسكرية على خلفية البرنامج النووي الإيراني، ترجح حدوثها في أية لحظة من لحظات طيش الإدارة البوشية / التشينية السابقة (إدارة بوش – ديك تشيني).
قبل حوالي خمسة شهور فقط كان الملف النووي الإيراني يتصدر قائمة اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، ومن خلالها قائمة اهتمامات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وكان الحديث يدور حول موعد انطلاق الطائرات والصواريخ الأمريكية لتضرب المنشآت النووية الإيرانية، وحول حجم المشاركة الإسرائيلية وطبيعتها في الهجوم.
كل هذا اختفى الآن من ‘الميديا’، والأهم من ذلك وعلى نحو مفاجئ.. من على ألسنة الساسة الأمريكيين والساسة الأوروبيين ورئيس وكبار مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكي نكون دقيقين، تراجعت إلى الخلف أو عُلِّقت، مؤقتاً، لاختبار وسيلة (أو حيلة إن شئتم) جديدة لاستدراج إيران إلى ترتيبات أمنية وسياسية إقليمية أكثر تعقيداً، وربما توريطاً، لنظام قد لا تسمح له آلياته الداخلية المحدودة للمناورة خارج إطار نسقه الأيديولوجي الصارم.
فقد قفز إلى المقدمة خطاب أمريكي جديد ولغة تودد جديدة، بنبرة مختلفة، ليس تجاه إيران الشعب فقط وإنما إيران القيادة أيضاً هذه المرة.
فجأة تم تجاوز 30 عاماً من الصراعات والمواجهات الساخنة والباردة، حيث وضعت الإدارة الأمريكية الجديدة كل ذلك وراء ظهرها، عَكَسَهُ الرئيس أوباما في خطابه المتلفز يوم الجمعة 20 مارس الماضي الذي كرَّسه للعلاقات الأمريكية الإيرانية. فقد دعا أوباما، إيران إلى ‘إنهاء عقود من التوتر والعداء وبدء عهد جديد من الحوار النزيه والقائم على الاحترام المتبادل’، وأكد بأن إدارته ‘تتعهد باتباع دبلوماسية تعالج مجموعة من القضايا التي تواجهها وستسعى إلى إقامة علاقات بناءة بين الولايات المتحدة وإيران والمجتمع الدولي’.
وكان لافتاً في هذا الصدد حرص الرئيس أوباما على اختيار عيد النيروز في إيران (دخول الربيع في 21 مارس) لتوجيه كلمته للإيرانيين، قيادةً وشعباً، إذ وصف الاحتفالات بهذا العيد بـ ‘موسم بدايات جديدة’، في إشارة واضحة لسعيه فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين.
ليس هذا وحسب، بل إن ما ألمح إليه وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس والمتحدث باسم البيت الأبيض تعقيباً على مبادرة أوباما، من أن الإدارة الأمريكية أعدت مشاريع مبادرات أخرى لتشجيع الحوار مع إيران، قد تحوَّل فعلاً إلى خطوات متسارعة من بينها ما كُشف النقاب عنه في بيروت من عقد أكثر من اجتماع بين دبلوماسيين أمريكيين وإيرانيين في سفارتي البلدين في لبنان، وقيام مسئول إيراني لأول مرة بزيارة قيل إنها ‘استكشافية’ لمقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل، وإعلان إيران عن موافقتها المشاركة في الاجتماع الذي دعت واشنطن إلى عقده في لاهاي والذي سيكرس لمناقشة الملف الأفغاني.
هو إذاً ‘منعطف تاريخي’ كما وصفه فرانكو فراتيني وزير الخارجية الإيطالي، من دلالاته الأخرى بالغة المغزى والأهمية استخدام أوباما تعبير الجمهورية الإسلامية، بما ينطوي عليه ذلك من اعتراف أمريكي ضمني بالنظام الإيراني، والتخلي – وقد يكون مؤقتاً أو ظاهراً على الأقل – عن فكرة تغييره التي لازمت سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ جيمي كارتر.
كل هذا جيد بطبيعة الحال، ولكن الطريق لتحقيق ذلك لن يكون معبداً أمام خصمين عنيدين اشتُهرا بإتقان وإدمان سياسة حافة الهاوية في لعبة التفاوض على كافة القضايا مهما كان شأنها.
بالمقابل فإننا يجب أن لا نسقط من حساباتنا أن الطرفين هما أيضاً ‘استاذان’ في البراغماتية (الذرائعية) السياسية. ولعل هذه البراغماتية هي نفسها التي قادت الولايات المتحدة في ظل إدارتها الجديدة للانتقال في لحظة زمنية من النقيض إلى النقيض. وقد تشي هذه الجزئية تحديداً بأن الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر احتياجاً وإقبالاً على إحداث تلك النقلة في علاقة البلدين. وهي إيماءة صحيحة على أية حال، فإن الذي دفع الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة، في نسختها الجديدة، عوامل دفع اضطرارية قوية، ومصلحة في الوقت عينه، وهي كما نتصورها:
(1) الأزمة الاقتصادية العميقة التي وصلت تأثيراتها إلى طاقات وآليات حركة النظام السياسي الأمريكي على الصعيد الدولي، والتي لن تسمح للولايات المتحدة – لبعض الوقت – بمواصلة دورها القيادي، المبادر ‘والفاعل’ في كل قضايا الكون، كبيرها وصغيرها، بنفس الوتيرة ونفس الفاعلية والحيوية.
(2) الاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس باراك أوباما في شأن باكستان مبنية على توفير عناصر نجاح من بينها تعاون طهران مع واشنطن، بمعنى أن تنفيذها على الأرض وتأمين النجاح لها لن يكون ممكناً من دون ضمان التعاون الإيراني.
(3) تخشى الإدارة الأمريكية الجديدة من أن تفضي سياسة تقليص وسحب القوات الأمريكية من العراق، وفاءً بوعودها الانتخابية، إلى حدوث فراغ أمني سوف تسارع إيران لملئه، ما قد يُضيِّع كل التضحيات البشرية والمادية التي قدمتها واشنطن استثماراً في ‘صفقة المشروع العراقي’. وهي لذلك تريد تأمين الخاصرة العراقية قبل إتمام انسحاب القوات الأمريكية النظامية منه.
ومن نافلة القول أن ‘التعاون’ الذي تطلبه واشنطن من طهران، لن يكون بلا مقابل. وقد استعجلت طهران مسألة الحصول على هذا المقابل، بمطالبتها الفورية بتحويل الكلمات الأمريكية إلى أفعال. إلا أن الأمريكيين لن يعطوا طهران ما تتمناه، وهو رفع الحصار الاقتصادي وتسهيل وتمرير ملف برنامجها النووي المستعصي والذي نجحت واشنطن ببراعة في تدويله ومحاصرة إيران بالتزامات ومواقف دولية شبه إجماعية حول عدم إضفاء المشروعية على هذا البرنامج، وإنما على العكس .. إغراقه وإحاطته بأسيجة متمادية من الشك والريبة التي تُفَسَّرْ في غير صالح ادعاءات إيران بسلمية البرنامج.
الطرفان، بهذا المعنى، سوف يقطعان في طريقهما التفاوضي حقلاً مليئاً بالألغام ستشهد محطات عبوره لحظات يقتربان فيها من صواعق تفجيرها. والأكيد في ترتيبات هذه الصفقة المثيرة أن الطرف صاحب المبادرة فيها، وهو هنا الولايات المتحدة، يمتلك خياراً بديلاً إذا ما انتهت ‘الصفقة’ إلى فشل. فمن غير المستبعد، مثلاً، أن تضحي واشنطن، في الخيار البديل، بدرعها الصاروخية المنوي نشرها في تشيكيا وبولندا، لصالح طرف براغماتي آخر هو روسيا، من أجل استمالة الأخيرة في صف ائتلاف دولي يشدد العقوبات الدولية المفروضة على إيران ويضاعف من تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية.
أخيراً وليس آخراً، علينا أن لا ننس أن ذلكم التقارب الأمريكي الإيراني لا يحظى بترحاب وقبول إقليمي، لاسيما من جانب إسرائيل التي تستعجل لحظة إعلان فشل هذه ‘الصفقة السياسية الأمريكية الجديدة’، وستعمل بكل ما أوتيت من نفوذ على تقريب موعد إعلان ذلكم الفشل.
ومع ذلك فإن السياسة لها أدواتها ووسائلها وخبراتها في تذليل عقبات تحقيق غايات ممتهنيها من الساسة المهنيين المحترفين، البارعين في توظيفها. فالإشكالية عاليه لا تشكل عائقاً أمام تقدمها مثلما أن الطبيعة الثيوقراطية للنظام الإيراني لا تشكل هي الأخرى عائقاً جديداً أمام تقدم ‘مشروع الصفقة’ المرتقبة، وذلك في ضوء الخبرة والتجربة التاريخية للعلاقات الدولية الأمريكية.