منذ شهرٍ واحدٍ من اليوم، بالذات في 4 مارس/ آذار الماضي وفي سابقة تعتبر الأولى من نوعها (إصدار حكم اعتقال رئيس دولة مازال في السلطة) أصدرت ‘’المحكمة الجنائية الدولية’’ مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشير بسبب مجموعة من التهم موجهة ضده .. لعل أهمها؛ جرائم إبادة ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم ‘’دارفور’’ السوداني.
في البدء.. بعيداً عن كل لبسٍ أو انحيازٍ وانطلاقاً من لغة القانون الدولي المحض، لابد من الإشارة من أن هذه المحكمة تنطلق من الشرعية الدولية، تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة وتستند إلى توجيهاتها، بمعنى أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بقرارات المحكمة الاختصاصية هذه، حتى إن لم تكن دولة ما قد وقعت على ‘’اتفاقية روما’’ الخاصة بإنشاء المحكمة الدولية (1998). جاءت مذكرة الاعتقال بعد سلسلة طويلة من المداولات القانونية والتحقيقات الدولية، دامت عدة سنوات. تمخضت عنها العاقبة التي نحن بصددها الآن. ولتسهيل الأمر للقارئ الكريم يكون مفيداً أن نمر سريعاً على أهم المحطات، نوجزها ‘’كرونولوجياً’’ في الآتـي:
– في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 شكل الأمين العام السابق للأمم المتحدة ‘’كوفي عنان’’ لجنة دولية
للتحقيق في الأوضاع في إقليم دارفور
– في مارس/ آذار 2005 صوت مجلس الأمن الدولي للقرار رقم 1593 في صالح إحالة ملف
دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.
- في أبريل/ نيسان 2005 سلم ‘’كوفي عنان’’ المحكمة الجنائية قائمة بأسماء 51 شخصاً يشتبه
في ارتكابهم جرائم حرب في دارفور بينهم مسؤولين سودانيين.
– في يونية 2005 أبلغ المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ‘’لويس مورينو أوكامبو’’ مجلس
الأمن الدولي عن وجود قرائن واضحة عن الجرائم العديدة وخاصة القتل الجماعي والاغتصابات
المنظمة، استناداً إلى التقارير الدولية المحايدة، التي أشارت إلى مقتل أكثر من ربع مليون إنسان،
وتشريد 5,2 مليون آخرين منذ بدء الصراع في إقليم دارفور العام 2003 .
- في فبراير 2007 أعلن أوكامبو اسم أول متهمَين سودانيَين، هما وزير الداخلية السابق احمد
هارون وأحد قادة ‘’الجانجويد’’ الأساسيين المدعي علي كوشيب. وهذا الأخير أفادت عنه
الحكومة السودانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2008 على أنه رهن الاعتقال والتحقيق.
– في 14 يوليو 2008 وجه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية؛ أوكامبو في مؤتمر صحافي
بمقر المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، ثلاث تهم جنائية للرئيس البشير، ارتُكِبت بحق قبائل
الفور والمساليت والزعاوة تتعلق بتطهير عرقي واغتصاب وتعذيب، وأعلن أن عدد الضحايا
الذين تم تشريدهم من ديارهم يقدر بـ 5,2 مليون، وأشار إلى أن 35 ألف قتلوا بشكل مباشر،
وأن ما بين: 80- 265 ألف ماتوا ببطء بعد أن شردهم النزاع، وأوضح أن قرار الإبادة من
الرئيس البشير بدأ في العام 2003م، عندما أمر الجيش بعدم الإبقاء علي أي أسير أو جريح
بنيّة الإبادة الجماعية. ووصف أوكامبو أن ما قام به البشير، عبارة عن جريمة إبادة جماعية
متعمّدة، مطالباً بتوقيف البشير وحظر أرصدته وممتلكاته وتقديمه للعدالة.
– في يناير 2009 اعتقال الترابي بعد يومين من مطالبته البشير بالرضوخ إلى أوامر المحكمة
الجنائية الدولية.
- في4 مارس/ آذار 2009 صدور مذكرة الاعتقال، التي على أثرها قام الرئيس السوداني بطرد
دستة من منظمات العون والإغاثة الإنسانية للنازحين من الحرب في إقليم دارفور، وبررت
السلطات السودانية قرارها بدعوى تعامل المنظمات تلك وإذعانها لمحكمة الجنايات الدولية.
- في مارس/ آذار 2009 (مباشرة بعد مذكرة الاعتقال) إطلاق سراح زعيم حزب المؤتمر الشعبي
(الإسلامي) حسن الترابي، غريم البشير الحالي وولي نعمته قبل الانقلاب، حيث أطلق نفس
التصريح السابق، الذي من وقته ساد صمت غريب في كل ما يتعلق بأخبار ومصير الترابي.
– في 30 مارس/ آذار 2009 تشهد العاصمة القطرية؛ الدوحة مؤتمر القمة العربية الدورية
الـ ,21 الذي يرحب بالبشير ويسانده متحدياً قرار محكمة الجنايات الدولية، الأمر الذي برزت
فيه الحقيقة المُرّة وهي أن المؤتمر المذكور قد دخل التاريخ في سابقة خطيرة مسجلا تمرده
على قرارات أعلى هيئة دولية، محاولا إعطاء البشير صكّ الغفران على جرائمه. ولعل هذا
يجسّد بوضوح طبيعة المنظومة الأوتوقراطية العربية كحاضنة للاستبداد وطاردة للديمقراطية.
تعود جذور المشكل السوداني الحالي ومأساة الحروب الداخلية وخاصة في إقليم دارفور، الواقع غربي السودان منذ فبراير سنة ,2003 إلى خلافات متفاقمة حول خلفيات عرقية وقبلية وليست دينية كما في حال الجنوب حيث أن الغالبية العظمى من الدارفوريين يدينون بالإسلام والمذهب الواحد مثل جُلّ إخوتهم السودانيين. ولكن الأمر الجلي، الذي ساعد على استفحال تلك الخلافات الفتاكة هو عدم استتباب الوضع السياسي واستقراره نتيجة انقلابات العسكر، بٍحَثٍّ وتخطيطٍ من القوى السياسية غير الديمقراطية، التي كان آخرها الانقلاب المشؤوم في 30 يونيو ,1989 المخطط له من قٍبَل حركة الإنقاذ ‘’الإسلامية’’، حينما أوعزت للعسكري حينئذ؛ عمر البشير من الاستيلاء على السلطة وإنهاء الحكومة الديمقراطية المنتخبة من قِبَل الشعب السوداني برئاسة الميرغني.
تعتبر فترة حكم البشير الأطول في السودان، وهو ثالث عسكري يستولى على السلطة في السودان بانقلاب عسكري بعد الفريق إبراهيم عبود في 18 نوفمبر 1958 وجعفر نميري في 25 مايو/ أيار 1969 .. وما تلا ذلك من تملص حكم البشير من الاتفاقيات ومعاهدات السلام ومجمل الحل السلمي الداخلي الذي كان جاريا بعد اتفاق الميرغني – قرنق. وإشعاله حربٍا دينيةٍ وإثنية، تعدت حرب الجنوب (توقفت بعد سنوات بصفقة) لتشمل الشرق ودارفور، وما تبعها من مآسيٍ، تجسّدت في مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وتصريف الآلاف من السودانيين المخالفين للحكم العسكري ‘’الإسلامي’’ من أعمالهم، تشريدهم، اعتقالهم، تعذيبهم وقتل العديدين منهم. بالإضافة إلى سن قوانين قمعية بُغية القضاء على ما تبقى من قنوات المجتمع المدني، سهّلت وشرعت في حلّ النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية وتدمير كل مؤسسات المجتمع المدني. ونهب القطاع العام وأموال الدولة، وتحويلها لفئة قليلة من الطفيليين الجدد وأثرياء الجبهة الإسلامية، التي اتخذت لاحقا اسم المؤتمر الوطني ( انشق بعد ذلك إلى: وطني وشعبي) كما رفعت الدولة يدها عن التعليم والصحة وبقية الخدمات الحياتية ودمرت القطاعين الصناعي والزراعي. وحتى بعد استخراج البترول لم تذهب عائداته للتنمية الزراعية والصناعية والخدمات العامة. كما أرهقت الدولة كاهل المواطنين بالضرائب (الجبايات) حتى تزايدت حدة الفقر والاستقطاب الطبقي، وصلت فيها نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 95% من الشعب السوداني. ونشأت رأسمالية ‘’طفيلية’’ جديدة خدماتية ذي غطاء ‘’ديني’’، نهبت أصول القطاع العام وعائدات البترول وركزت السلطة والثروة في يدها، ونشرت الفساد بشكل لا مثيل له، حتى تم تصنيف السودان في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم!