تعيش دولة الكويت الشقيقة حالة من الارتباك السياسي اصطخب فيها الجدل بين مختلف المكونات الحزبية (غير المتوجة) بمختلف انتماءاتها وامتداداتها القبلية والعشائرية والطائفية، بشأن العلاقة بين هذه المكونات المتمكنة والمهيمنة على السلطة التشريعية وعلى قسماً مهماً من السلطة الرابعة (الصحافة المكتوبة والمرئية – الفضائية)، وبين السلطة الحاكمة، وهي علاقة اتخذت في السنوات القليلة منحاً صدامياً بسبب طغيان فزعة منازعة السلطة بصورة فاقعة لدى بعض المكونات الحزبية (غير المتوجة رسمياً كما قلنا) التي تراءى لها، بعد الفسحة الفسيحة من حرية الحركة التي أتيحت لها، أنه قد آن الأوان لكي تحول نفوذها المتعاظم إلى حالة شيئية حان وقت استحقاقها! ومنذ عام 1999 تم حل البرلمان والدعوى لانتخابات مبكرة ثلاث مرات آخرها كانت في مارس العام الماضي فقط، حيث شهدت السنوات الثلاث الماضية تحديداً تصعيداً متراكماً للتأزيم المقصود من جانب بعض مراكز القوى السياسية الدينية والقبلية.ولهذا دار الكثير من اللغط والتكهنات والتوقعات والإشاعات كذلك، حول الخطوة ‘التالية’ التي ستخطوها الكويت والوجهة التي ستختار اتجاهها، وهي تجتاز هذا المأزق السياسي الذي يعيد إلى الأذهان الظروف التي أحاطت بحل مجلس الأمة عام 1976 وفي عام 1986 ، وهما الحالتان الوحيدتان اللتان تم حل المجلس حلاً غير دستوري منذ بدء الحياة البرلمانية في الكويت عام .1962
وكانت هناك تكهنات كثيرة تصاعدت ووصلت إلى ذروتها حتى يوم الثلاثاء الموافق للسابع عشر من مارس الجاري، ومفادها أن الكويت تتجه لتعليق الحياة البرلمانية لمدة عامين وأن أمير الكويت سوف يحسم الجدل بشأن الأزمة السياسية المندلعة بهذا الاتجاه.
ولكن أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد خرج في اليوم التالي ليحسم هذا الجدل بخطاب متلفز أعلن فيه حل البرلمان حلاً دستورياً والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، حيث جاءت كلمته هذه المرة أطول من المعتاد في الحالات التي تم فيها الإعلان عن حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، وقد اختزلت عناصر الشد والجذب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية التي طغت على المشهد السياسي الكويتي على مدى عام تقريباً وأصبحت مادة إعلامية يومية يفطر عليها المواطن الكويتي. حيث قال بالحرف الواحد: ‘لاشك أن هناك بعض أوجه القصور في أداء أجهزة الحكومة بما يستوجب العمل الجاد للارتقاء بأداء الجهاز الحكومي والعمل على تسريع إنجاز المشاريع التنموية والاستجابة لتطلعات المواطنين وضمان مستقبل أجيالهم المقبلة’. ولكنه تساءل في الوقت نفسه قائلاً: ‘ولكن هل يمكن أن يتحقق الإنجاز المطلوب في ظل أجواء مشحونة بغيوم الشد والتوتر والتعسف والتشكيك والترهيب، وأن ممارسة النائب لحقوقه الدستورية في استخدام أدوات الـرقابة البرلمانية حـق لا جدال حوله بل هي ممارسة رقابية محمـودة ما دامت في إطارها الصحـيح بما في ذلك توجيه الاستجوابات …
ولكن كل حق مهما كان نوعه له شروط وضوابط لا يجوز إغفالها أو القفز عليها، ولعل أهمها أن يكون منضبطاً بإطاره القانوني السليم وملتزماً بروح المسؤولية ومحققاً لغاية وطنية بعيداً عن الكيدية والشخصانية وإلا صار الحق أشبه بالباطل’.
وأميل هاهنا إلى وضع خطين تحت مفردات ‘التعسف، والتشكيك، والترهيب، والكيدية والشخصانية’ الواردة في خطاب الأمير سالف الذكر، لما تنطوي عليه من توصيف، وتوصيف جزئي كي نكون دقيقين بقدر الإمكان، لحالة الشد والجذب بين الحكومة والبرلمان التي أشرنا إليها عاليه، والتي وصلت إلى ذروتها بتقديم النواب الإسلاميين ثلاثة طلبات استجواب لرئيس الحكومة خلال أسبوعين متهمين إياه بسوء الإدارة وانتهاك الدستور وغياب الحذر في سياساته الاقتصادية واختلاس الأموال العامة. وهكذاو بعد أن نجحت الكتل النيابية الكويتية، كل لأسبابها وأغراضها ومنطلقاتها الخاصة، في تحويل الاستجوابات إلى سيف مسلط على وزراء الحكومة كأداة ضغط وابتزاز سياسي ومصلحي، ها هو السيف يشهر هذه المرة في وجه رئيس الوزراء في إصرار واضح على التمادي في استسهال الاستخدام التعسفي لهذه الأداة الدستورية، بما مؤداه تحويل البرلمان إلى ‘كلية’ لوبي جماعية، ومكوناته الحزبية (غير المتوجة) إلى مراكز قوى مؤدلجة ذات أجندات سياسية فاقعة وإن كانت غير معلنة.
واللافت أن هذه التوليفة المعقدة لشبكة المصالح، الفئوية والحزبية (الأصولية الإسلامية أساساً) والقبلية والطائفية السياسية، التي تمثلها مراكز القوى تحت القبة وخارجها، أضحت جزءاً أصيلاً من النظام السياسي الكويتي لم تستطع ثلاث دورات انتخابية متتالية إحداث تغيير فيها. نعم لقد حدث نوع من الانتقال الجزئي (كي لا نقول نقلة)، ولكن الجوهري، في ميزان القوى لصالح القوى سالفة الذكر، في الوقت الذي كان يغلب على الحراك الحكومي المقابل، الارتخاء والتهاون والتسيب والتورط في خروقات الفساد، فكان أن أصبح في متناول يد قوى الإسلام السياسي الصاعدة و’المتنمرة’، أن تحيل موضوع الفساد إلى فوبيا تسبب في تراجع الحكومة عن عدد من المشاريع الاقتصادية الحيوية، وانتهاء الأخيرة إما إلى التأجيل المكلف مالياً أو الإلغاء، لاسيما المشاريع المتعلقة بالقطاع النفطي وتفريعاته.
فكيف يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي في دولة الكويت في ظل عدم تمتعها بحكومة ثابتة ومجلس نيابي يكمل مدته الدستورية البالغة أربع سنوات؟ بهذا المعنى، قد تكون الكويت بحاجة إلى ما يشبه فترة ‘النقاهة السياسية’، تتوافق نخبها بموجبها على إعطاء الديمقراطية الكويتية إجازة محددة المدة تقوم خلالها حكومة تصريف أعمال من الشخصيات الكويتية المشهود لها بالاستقامة، بإدارة شئون البلاد في هدوء، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، وبلا ضوضاء وتشويش، بما يوفر للجميع، لاسيما الشعب الكويتي، فرصة الانصراف التام نحو العمل والبناء والتعمير. وقد توفرمثل هذه المقاربة فرصة للديمقراطية الكويتية لإعادة الاعتبار لشخصيتها التي طالما تميزت بها في عالمنا العربي.
الوطن
28 مارس 2009