هذا النقاش الذي يتجدد بين الحين والآخر حول المسألة الطائفية يشير إلى أننا بصدد موضوع حقيقي, أعني غير مفتعل, وإلا لما كان يجد في كل مرة يثار فيها, هذا الصدى. وفي هذا السياق علينا أن نفرق بين مسألتين: الأولى هي الفوارق أو الاختلافات المذهبية, من حيث هي معطى تاريخي ورثناه منذ الانقسامات العميقة, الفكرية والسياسية والفقهية, في التاريخ الإسلامي منذ بواكيره بعد وفاة الرسول, والثانية هي الطائفية من حيث ممارسة سياسية -إدارية أو اجتماعية- حياتية قائمة على التفريق والتمييز, على إبراز الفوارق وتغييب المشتركات. أي إن المذهبية, من حيث هي انتساب لهذا المذهب أو ذاك من المذاهب الإسلامية, في ظروف البحرين الملموسة على سبيل المثال, ليست هي الطائفية, وإن بدا ذلك ظاهرياً. صحيح أن الطائفية تنطلق من تلك الفروقات المذهبية لتنشئ جداراً بين أبناء الطوائف, كل طائفة تتخندق وراءه, ولتنشئ التفريق بينها وبين الطائفة الأخرى, لكن المذهبية وحدها لا تؤسس للطائفية بدليل أن الكثير من المجتمعات قائم على فسيفساء مذهبية وإثنية دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى ضروب التمييز. المذهبية تؤسس للطائفية حين يوجد من يسعى لذلك ويعمل في سبيله, ولا سبيل لإلغاء المذهبية بقرارٍ أو إرادة أو برغبة لأنها نتاج تكوين تاريخي مديد راسخ في العقول والأفئدة, لكن هناك سبيلا لإلغاء الطائفية من حيث هي نظام أو سلوك للتفريق أو الصراع, وهناك سبيلا لاعتماد المواطنة وحدها معياراً في الفرص الوظيفية والإدارية والخدمية والتعليمية وما إليها, مما يندرج في نطاق حقوق المواطن وواجباته, فلا يعود أي مواطن يشعر بالغبن لا لشيء سوى انتمائه المذهبي, دون النظر إلى كفاءته وقدراته, أو أن تنشأ قسمة طائفية بموجبها تُحسب هذه الوزارة على الشيعة وتلك على السنة. في الدراسات المعمقة التي كتبت عن الطائفية في بلدان تعاني منها مثلنا, وأكثرها قرباً إلينا في المظاهر والسلوك هي لبنان, نجد هذا الإلحاح من قبل الدارسين على أن الطائفية هي ممارسة سياسية وإدارية في المقام الأول, وحسبنا هنا أن نشير إلى دراسات مفكرين مثل الراحل مهدي عامل وفواز طرابلسي اللذين حللا الطائفية في بلدهما فرأيا فيها وظيفة سياسية تُؤدى. لذا فإنه بدلاً من أن يجري اعتماد تدابير للتغلب عليها والحد من آثارها ومظاهرها وصولاً لإنهائها, نرى أنه يعاد إنتاجها لتواصل أداء هذه الوظائف السياسية, فلا تعود الطائفية والحال كذلك, رديفاً للتعددية المذهبية أو الدينية, وإنما أداة من أدوات تقاسم النفوذ. ولأن بعض هذه النفوذ غير قابل للقسمة, فإنه من الطبيعي أن ينشأ التفريق لأسباب مذهبية في الظاهر, ولكنها مع الوقت أسست وتؤسس لتراتبية اجتماعية. ولا يقل خطورة أن يرتدي الرد على التفريق صورة دفاع طائفي, بدلاً من أن يكون دفاعاً وطنياً عن فكرة المواطنة, وأن يجري الخلط بين السياسي وبين المذهبي, فيما المطلوب هو المساهمة في تكريس مفاهيم ومساعي المشاركة والاندماج الاجتماعي وتعزيز قيم المواطنة والتشريعات الموحدة وليس المفرقة.
صحيفة الايام
1 ابريل 2009