منذ أن أُبعد حزب الأمة السوداني عن الحكم في كل مرة يصل فيها إلى السلطة، تتالت المشكلات والكوارث على السودان.
كانت الطائفة التي يمثلها تمثل شبكة شرايين اجتماعية منتشرة في الشمال خاصة وتحفظ النسيج الوطني السوداني، لكن الحكومات العسكرية المتتالية والحركات الدينية الطائفية والمحافظة رفضت الخيارات البرلمانية وصعدتْ على ظهور الشاحنات العسكرية إلى السلطة.
منذ إبراهيم عبود والعسكريون يحاولون ما لا يقدرون عليه، إخضاع هذا الشعب الطيب والبسيط والصبور والمكافح، وكل مرة يأتي عسكري كبيرٌ ينقلُ البلدَ لأزمة كبيرة ويصعدهُ تلة أخرى مليئة بالنار والدم.
نتذكر إبراهيم عبود وقمعه الشرس، ثم الثورة الشعبية التي أطاحت به وشعارها: اذهبوا أيها العسكر لثكناتكم. لكن العسكريين لم يتعلموا.
إنهم لا يذهبون، فيزداد الاهتراء والتمزق في الخريطة الوطنية. وهذا القفز إلى خشبة المسرح السياسي العالية كانت توفرها الأفكارُ الشمولية القادمة من الدول العربية وتتغلغل بين صغار الضباط الذين يقفزون على مستوياتهم الفكرية البسيطة والفقيرة ودرجاتهم الصغيرة، ليتحولوا إلى حكام لبلد كبير.
إن القفزة العسكرية الانقلابية تمثل أفكار المقامرة بمصائر الناس، وليس هي مثل حزب عريق يراكم التجارب والنضالات ويجعل الشعب يتطور ويغير نفسه، فهي تصعد مغامرين محدودي التبصر بالسياسة لا يعرفون سبل التطور ويقررون قرارات خطرة تلحق أضراراً جسيمة، وربما تكون السلطات السابقة قد سمحت لهم بالصعود وربما سمنتهم بعض الوقت فأكلوها.
والأفكار الانقلابية المشبعة بالبهارات القومية الزائفة كان يُلاحظ لدى التيارات الوطنية السودانية عمليات تغلغلها في الساحة السياسية، ونشرها بالأموال، وقد عبرتْ تلك التيارات منذ الستينيات عن خشيتها من هذين التسلل والفرض لهذه الأفكار، التي كانت إحدى الشخصيات التي تجسدت بها كالدكتاتور السابق جعفر النميري، الذي قام بإنجازات دموية كبيرة، والذي قفز هو الآخر على حزب الأمة وعلى الانتخابات والدستور، ثم أراد أن يعجن التيارات السودانية كلها في عجينة واحدة، ملغياً الاختلافات الفكرية والسياسية، وأنشأ ما سُمي الاتحاد الاشتراكي، وقد فرضه بالقوة، وساعده تصاعد دور الحكومات الشمولية في مصر وليبيا خاصة.
كانت نتائج الأفكار الشمولية (القومية) انها بدأت تمزيق خريطة السودان. كان السودانيون شعباً ذا عفوية سياسية وطنية متوحدة، لكن الأطروحات القومية والدينية المتعصبة، جعلت الجنوبيين المسيحيين يشعرون بالخوف من نزعات الشمال الجديدة، خاصة أنهم عاشوا الاضطهاد أكثر من غيرهم على مدى التاريخ.
وكلما ازدادت قبضة الشمال العسكرية تفكك السودان، وهو أمرٌ على النقيض من الشعارات التوحيدية التي تتفجر مع كل بلاغ عسكري من الخرطوم، وكان الشعب ليس بحاجة إلى البلاغات بل إلى السكك الحديدية والأعمال والتجارة والمساواة بين أقاليمه وقومياته وأديانه.
وزادت الحركاتُ المتاجرة في الإسلام الثقافةَ الشمولية العسكرية غنىً دمويا، وتفكيكا لخريطة البلاد التي كان يوحدها الرعاة والفلاحون ورجال الدين الشعبيون والقبائل والعساكر البسطاء، ولم تكن بحاجةٍ إلى الدبابات من أجل ذلك، كما أن هذه الحركات المتاجرة في الدين زادت أهل الجنوب والمناطق المخلتفة، خوفاً فحملوا السلاح، ثم انتشرت النار في بقية الأقاليم.
كلما جاء فصيل عسكري وعد الشعب بالكثير من الانجازات والتغييرات، وقد جاء العسكر في الفترة الأخيرة فكانوا تتويجاً لذلك التاريخ المكفهر.
تصارع العسكريون الدينيون الحاكمون فيما بينهم وراح كلُ قسم يزايد على الآخر فيما يقدمه من مكاسب للشعب، وتصارعوا مع قوى الأقاليم المنفرطة من السيطرة الحكومية، وراحوا يجمعون خيرات النفط من دون إصلاحات معيشية بسيطة للجمهور.
الحل هو أن يتركَ العسكرُ الحكمَ، ويعود الحكم المدني، ويُزال استغلال الإسلام للتجارة السياسية، وتجرى انتخابات ديمقراطية على ما كان يجري من انتخابات في السودان في عصره الديمقراطي الشفاف البسيط قبل عهود العسكر، مع إجراء التطورات الضرورية بعد كل هذه التحولات والكوارث.
بطبيعة الحال لن يحدث ذلك ولن يخرج العسكر وهم الضباط الكبار في الواقع وليس الجنود المساكين الذين يسوقونهم لمعارك لا دخل لهم فيها.
كانت “إنجازات” حكومات العسكر كثيرة على أهل السودان؛ فقد صار الإقليم الغني سلة العرب الغذائية محلاً للمجاعات، وتشرد كثيرٌ من سكانه، وافتقروا أشد الفقر، وتصارعوا أحزاباً وأدياناً ومناطق، وسمحوا بالتدخلات الأجنبية من كل حدب وصوب، وبكل لون وطريقة.
ستكون هي النتيجة الأخيرة من هذا الفصل حين يعترف العسكريون بعجزهم وينسحبون تاركين لأهل السياسة الوطنية تدبر أمر السودان من أجل إصلاحه وإعادته إلى طريق الديمقراطية والسلام.
أخبار الخليج 27 مارس 2009