لا تقاس عظمة الفرد بما يقدم عنه من شهادات بذلك في المرثيات التي تدبج بعد مماته فحسب، بل الأهم من ذلك بما يقدم عنه من شهادات نزيهة موضوعية صادقة خلال حياته من مختلف الرموز والقوى التي تختلف معه في الفكر، ولا تقاس عظمة المسيرات الجنائزية بحجم اعدادها فحسب، بل بتنوع الرموز والشخصيات السائرين فيها.. وهكذا فالقاهرة التي شهدت اعظم مسيرة جنائزية عربية خلف زعيم عربي متمثلة في جنازة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر (سبتمبر 1970) حيث سار خلفه أكثر من خمسة ملايين فرد، والقاهرة ذاتها التي شهدت اضخم مسيرة جنائزية تسير خلف فنان عربي ممثلة في جنازة فنانة العرب الكبرى ام كلثوم (1975) حيث سار خلفها ما لا يقل عن مليوني شخص، هي نفسها التي شهدت أول مسيرة جنائزية سياسية فريدة من نوعها ألا هي جنازة واحد من أكبر وأشهر الشيوعيين العرب منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين المفكر محمود أمين العالم، حيث سار خلفها في يناير الماضي رموز كبيرة من مختلف ألوان الطيف السياسية والحزبية والثقافية والنقابية والدينية، ومن ضمنهم على وجه الخصوص المرشد العام للإخوان المسلمين، الحزب الذي نذر نفسه في كل الأقطار العربية، لا مصر وحدها، لمحاربة واستئصال الشيوعية من المجتمعات العربية.
هو الذي، العالم، تولى مناصب علمية وثقافية واعلامية مرموقة في عهد عبدالناصر بعد ان فصله من الجامعة ثم سجنه خمس سنوات (1959 – 1964)، ثم فرض عليه السادات بدوره النفي القسري، لكنه حصل في عهد مبارك على جائزة الدولة التقديرية عام 1998، وهكذا حظي العالم بكل ذلك التقدير الرسمي المعنوي في فترات مختلفة مثلما حظي بعسف الدولة تجاهه دونما أن يتزحزج قيد أنملة عن موقعه كمعارض يساري واقعي معتدل.. وان كان حليفا لعبدالناصر منذ عام 1965 حتى رحيله المفاجئ الفاجع عام .1970
وانت لئن اردت ان تعرف قيمة ومكانة اي كاتب أو مثقف كبير، فما عليك الا ان تسمع او تقرأ ما يقوله عنه المختلفون معه في الفكر والتيار السياسي الذي ينتمي اليه ولو بشيء من التجرد، وذلك حينما يقدمون شهاداتهم الموضوعية لوجه الله والحقيقة، بعيدا عن الاهواء ومنزلقات التعصب الحزبي او السياسي او الديني وغير ذلك من النزوات السياسية والدينية والطائفية والتي تدفع من يقع اسيرا لأي منها او كلها مجتمعة إما لكتم شهادته وحجبها عن الكاتب المتميز او المثقف المعطاء او المفكر المنتج الذي يختلف معه في الانتماء الفكري او المواقف السياسية، وهذا اضعف الايمان، وإما لا يتورع عن مهاجمته وتشويه مواقفه لمجرد انه لا ينتمي معه الى تيار فكري واحد مشترك، او لمجرد ان هذا الكاتب او المثقف او المفكر اختلف معه في مواقف سياسية عديدة او انتقد لمرة أو لمرات ما يراه غير صحيح من مواقف صدرت من قبل القوى السياسية التي قررت هي أو رموزها معاقبته بحجب الشهادة الموضوعية في حقه ككاتب او كمثقف او كمفكر سواء خلال حياته أم بعد مماته وذلك برميه بما انزل الله به من سلطان من تشويه وافتراء لمواقفه وتحليلاته وتجريده من اي عطاءات او ايجابيات تحسب موضوعيا له بصرف النظر عن انتمائه الفكري او الديني.
وهكذا فالذين اجمعوا على ما يشكله محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس من قيمة فكرية وسياسية وعلمية وثقافية كبيرة لم يقتصروا على لفيف سياسي من مختلف ألوان الطيف السياسي فحسب، بل لفيف آخر من مختلف ألوان الطيف في الثقافة والأدب، ناهيك عن المجال العلمي الذي تخصص فيه كل منهما، حيث أنيس كان قد تخصص في “الرياضيات” ونبغ فيها، والعالم تخصص في “الفلسفة” ونبغ فيها، علاوة على اقرار النقاد العرب بريادتيهما بعدئذ في حقل النقد الادبي، وان لم يتفرغا ويكرسا حياتهما الثقافية لهذا الحقل كثيرا بقدر تفريغ وتكريس جل حياتهما للعمل الفكري والنضالي السياسي الحركي.
كان المفكر العالم على وجه الخصوص واحدا من ندرة من المفكرين العرب المتميزين الذين هم انفسهم يجمعون على استحقاقه لقب “مفكر” ويليق به بكل موضوعية، رغم انه لم ينل “الدكتوراه” ولم يسع الى هذا اللقب أبدا، كما سعى الى تلك الشهادة والى ذلك اللقب ادعياء كثيرون لقبوا أنفسهم بلقب “مفكر” دونما ان يستحقوه، واصروا على تزيين وزخرفة اسمائهم به في ذيل كتاباتهم، وهم لم يقدموا عشر ما قدمه أي واحد من تلك الندرة العظيمة من المفكرين العرب الذين يشكل العالم واحدا منهم.
ولربما يعد رحيل التوأمين العالم وأنيس مؤخرا من أكثر الخسارات فداحة التي لحقت بالساحتين السياسية والثقافية العربيتين خلال السنوات القليلة الماضية حيث غيّب الموت خلالها عن دنيانا كوكبة عريضة من المفكرين والمثقفين والمبدعين والعلماء العرب، دع عنك من رحلوا عنا على امتداد نحو ربع قرن تقريبا.
الاكاديمي المصري محسن خضر لفتته هذه الظاهرة الفاجعة لكثرة من رحلوا من تلك الكوكبة المصرية التي لمعت في مجالات مختلفة بدءا منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وذلك على إثر رحيل المبدع السينمائي الكبير يوسف شاهين والمؤرخ رؤوف عباس والمثقف المفكر عبدالوهاب المسيري والناقد سامي خشبة والناشط الحقوقي احمد عبدالله رزة (أحد رواد الحركة الطلابية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) والكاتب فتحي عبدالفتاح ورجاء النقاش وأحمد عباس صالح وعلي الراعي وعبدالعزيز حمودة وسمير سرحان. وصف الكاتب رحيل مثل هؤلاء تباعا وغيرهم كثيرون خلال السنوات القليلة الماضية بأنه بمثابة تآكل للجيل الطليعي الرسالي التنويري المقاوم والمهموم بقضايا الوطن والأمة والانسان (محسن خضر، عن تآكل جيل المثقفين الرسالي،الحياة 10/9/2008).
والواقع ان هذا التآكل كما أسماه الكاتب المصري خضر، أو الانقراض على الأدق ظاهرة لا تقتصر على مصر وحدها كما لفت نظره، بل هي ظاهرة أحسبها تنطبق على كل البلدان العربية بلا استثناء، فأنت فتش معي في أسماء كل من تعرفهم من رموز وقمم ابداعية وفكرية ونضالية كبيرة في كل تلك الاقطار فلن تجد من تبقى منهم اليوم سوى القلة، بعضهم مازال ينافح مقاوما امراض الشيخوخة او شبحها القادم ليستنفد ما تبقى لديه من طاقة ذهنية وجسدية في العطاء، وبعضهم اعتكف على نفسه ليطويه النسيان، وبعضه الآخر لفه النسيان بفعل مداهمة تلك الامراض له وبفعل ما يواجهه من تهميش ممنهج.
يخلص الاكاديمي المصري خضر الى أن رحيل تلك الكوكبة من جيل الطليعة والرواد “المصريين”، ونضيف اليه: “وغيرهم من العرب”، يؤذن بمصير قاتم ينتظر الثقافة المصرية والعربية وذلك في ظل ما اسماه عطب مولدات الوعي والاستنارة المعاصرة، سواء على المستوى الرسمي ام على مستوى التنشئة الاجتماعية، بما في ذلك انهيار النظام التعليمي الرسمي بتفاقم فساده، والتسطيح الاعلامي، والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب، وتعطيل دور النقابات وتهميش الكفاءات واختيار فئة “أهل الثقة” في مراكز وقيادات مختلف حقول العلم والثقافة والابداع والمعرفة، دع عنك الجهاز الاداري العام حتى لو كانت مسطحة، وابعاد او تهميش فئة “أهل الكفاءة”، ان لم يكن محاربتها بمختلف الوسائل الممكنة، ونحن نشاطره تماما في هذا القلق من المصير النهضوي القاتم المقبل، ذلك بأنك لو تتبعت اجيال رواد النهضة العربية الحديثة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ستجد على الأقل ثمة ملمحا متصلا بين جيل ازف رحيله وجيل آخر ازف حلوله محله من حملة مشاعل التنوير والنضال بين كل نصف قرن وآخر، لكن هذا ما لا يبدو الآن في الأفق الراهن مع انقراض جيل الرواد الخمسيني، اي الذين برزت انطلاقتهم الريادية تباعا منذ النصف الثاني للقرن الآفل.. وحيث لم يتبق سوى فئة قليلة محدودة من الجيل المخضرم الذي ولد في الخمسينيات ومازالت تلك الفئة تنافح للقيام بدورها في ظروف راهنة موضوعية وذاتية معقدة بالغة القسوة والتحبيط، ولربما انقرضت بالتلاشي او الموت البطيء قبل ان يأزف أوان رحيلها الطبيعي!
صحيفة اخبار الخليج
26 مارس 2009