ليست هناك جذور قوية للرأسمالية والتطورات التجارية والصناعية في المنطقة الخليجية، وقد انتقلت من وكالات ودكاكين إلى ناطحات سحاب، ومن استيراد محدود إلى استيراد شامل.
في هذا الانتقال الذي استغرق أقل من قرن، لم يكن للتجار والصناعيين والمقاولين قواعد اقتصادية حديثة وعقلانية متجذرة، وانتقلوا من مجتمعات بدوية – قروية إلى الارتباط بمراكز الرأسمالية العالمية الكبرى والمناطقية الآسيوية العملاقة، من دون أن تكون المنطقة محضرة تحضيراً مطولاً لهذه النقلة العاصفة.
فليس ثمة شيء من الانسجام في الأبنية الاقتصادية العامة، ولا في البنية التحتية، فالعمالة من بقاع الأرض كافة، وهي في تضاد مع العمالة المحلية، والعمالة المحلية موجهة في أغلبها للوزارات والجندية، وقليل منها متوجه للمصانع.
وبمجموعها هي عاملة أقل من مستوى العصر، وأقل من المستوى المطلوب في العمل والإنتاج.
والكثير منها رث، لا يصلح للعمل والاستخدام في الجوانب التي حشر فيها. فهناك اصرار على جلب عمالة رثة، متخلفة، ناقلة لشتى الأمراض.
ونجد أن أغلبية العمالة قادمة من مناطق غير متطورة، بل متدهورة في عيشها وانتاجها وحياتها، فكيف يمكن أن تفيد مجتمعات تريد أن تنمو بل تتطلع إلى إحداث قفزة تجعلها في طليعة دول المنطقة؟
البلدان التي تأتي منها هذه العمالة في حالة انهيار كبلدان الحبشة واليمن وجنوب الهند وسيرلانكا وبنجلاديش وغيرها من البلدان التي شهدت كوارث الحروب والانتقالات التاريخية غير المتوزانة وفيها عاميات فقيرة تريد أي فرصة للعيش والانتقال.
وهناك مناطق في بلدان متخصصة في نقل الارهاب ومن خلال منظورات دينية، وتوضع مع عمال من بلدان أخرى تحلل كل شيء.
فلا توجد أي خطة ولا تنسيق ولا دراسات بل نقل مستمر لهذه السيول البشرية وقذفها في الأزقة والمعامل والحفريات.
وكان القصد من التركيز على هذه البلدان وسفر الوزراء والمقاولين والاقتصاديين إليها هو جلب مثل هذه العمالة الرثة، الرخيصة، التي لا تقدم تطوراً على صعيد العمل المتطور والتقنيات وتمثل مشكلات في انتقالها وعيشها وفي مستوى مهاراتها.
السبب الأول والأخير هو تفاهة الأجور التي تـُدفع إليها، وعدم وجود قوى تدافع عنها، وتحترم إنسانيتها. فحتى نقابات معينة ترفض عضوية هؤلاء العمال وتمنع أن يصعد أعضاؤها في سلم النقابات وكأنهم ليسوا بشراً.
أما أن يكون لهم رأي سياسي في مناطقهم وظروفهم وفي المساكن التي يُلقون فيها وفي البضائع الغالية التي يشترونها والأدوية التي لا يعثرون عليها.. فلا يمكن أن تنبس ببنت شفة هنا.
مليارات كدسها المسؤولون وأصحاب الأعمال والموظفون الكبار، ومالكو الفنادق الكبرى والشركات العملاقة والمصانع، ثم يقومون بجلب هذه الجحافل من البؤساء لينشروها في الخليج، بين المصانع والمكاتب والفنادق، لتقوم بأي شيء، ولتجيء بأي فائض، ولتسكن في أي بيوت، وأي شقق رثة تتكدس فيها من دون مقومات الحياة البشرية والنظافة.
عمارات عملاقة وبنوك ذات مظاهر خلابة ثم عواصم مليئة بهذه الجحافل تتكلم بشتى اللغات، كأنها أبراج بابل جديدة مخصصة لانتزاع النقود. تعمل في ظروف قاسية، في ظهيرة الخليج الحارقة، تنقل أمراضها ومشكلاتها من دون رقابات فعالة.
احتفظوا لها بالأحياء القديمة، حارات العز القديمة الشائخة، وأنزلوها بها. فراحوا يزيدونها رثاثة ووساخة وشيخوخة. لا تعرف هذه العمالات كيف تسوق فيصدمون المارة. يركبون سيارات حديثة ولم يحصلوا على رخص قيادة في بلدانهم. لا يعرفون ما هي الصحة ويملأون الطرق بالقذارة. يتاجرون بأي شيء، يعملون طوال اليوم، عمالٌ ومرضى، قطعُ نقودٍ صغيرة يتسلمونها فيعملون بأي شيء، يهربون من الأعمال ليلتحقوا بأعمال أخرى في كل لحظة، يحيلون الفنادق إلى حصالات، يحيلون الأسواق العريقة إلى أسواق رثة، نتنة، لا يعثرون على أدوات صحية، لا يتسبحون، ينشرون ثيابهم المغسولة المليئة ببقع الزيت والبقايا في الطرق والأحواش الصغيرة وفي الشرفات المزدحمة، ينامون قرب السلندرات المليئة غازاً، يأكلون اسوأ الأغذية، فليس لديهم سوى الدهون والنشويات المحدودة بالعناصر الطبيعية المفيدة، يمرضون ويتجهون لمستشفيات مليئة غير قادرة على العلاجات الدقيقة.
إلى متى لا يتم ضبط هذه العمالات؟ ولماذا يسمح لها العمل بأي شروط لـتــُقذف في الأسواق لتعمل في الجزارة، في الفلاحة، في الحمل، في تنظيف، أي شيء!؟
لا نجد أي حملات تفتيش على بيوتها مثلما تتم الحملات المكثفة على الفنادق، وكأن أصحاب الفيز والشركات فوق مستوى القانون.
ولا تتأثر ولا تتضرر الجماعات الثرية التي تعيش في مناطقها المستقلة بهذه الحشود المتدفقة دوماً، فمن يتأثر هم الفقراء والعامة التي تعيش معها هذه العمالة الرثة، التي تتحول إلى ضارية ومزاحمة، فترفع الإيجارات، والأسعار، وتوسع البطالة، خاصة في قدرة هذه العمالات على التحايل وجلب أسرها ونثرها في البلد المغمض، بل تصل المزاحمة إلى مواقف السيارات، والتحكم في الأزقة، والدروب، وفي السيطرة على الدكاكين!
إنها عمالات فقيرة رثة، ولكنها كذلك تتطلع للتجذر والسيطرة والامتداد، وما أسرع ما ينتقل بعضهم من المسكنة إلى الهيمنة والتعالي! ويبدون بمنتهى الضعف أولاً وسرعان ما يسيطرون على الأمكنة والأسواق، فتتفجر الصراعات والشجارات.
ودائماً يجابه المسئولون والمتنفذون هذه العمالات بـ (الرحمة) وليس بالشدة اللازمة القانونية، فدائماً لديهم بأن المواطنين هم المخطئون، وهم الذين يعتدون على هؤلاء العمال المهاجرين، وقد يكون ذلك موجوداً، لكن الحالة التغلغلية لهذه العمالة الأجنبية والنمو على حساب العاملين المواطنين، والتسيب في الرقابة من قبل الأجهزة، كل هذه تقلب الصورة وتجعل العكس هو الصحيح!
أصبحت هناك قطاعات مهمة من المواطنين والأجانب مستفيدة من المهاجرين الفقراء ولا تريد لهذا الوضع المتردي أن يقف وأن يصحح.
صحيفة اخبار الخليج
26 مارس 2009