المنشور

التوأمان العالم وأنيس.. والجيل الرسالي (2 – 3)

ثمة العديد من المثقفين العرب، وفي العالم ايضا، يمتلكون استعدادا فطريا وإرادة قوية للنبوغ في أكثر من حقل من حقول الثقافة والعلم والابداع وليس حقلا واحدا فقط، لكن ما من مثقف موسوعي حتى لو امتلك الموهبة والإرادة والمثابرة يستطيع في مطلق الأوقات والأحوال ان يبقى مستمرا في مرتبة التميز في مجمل تلك الحقول بازا أو مضاهيا نظراءه فيها المتخصصين أو المتفرغين لحقل دون سواه.
يستطيع المرء لو أراد وأسعفته الموهبة وملكة النبوغ والذكاء أن يكون مثقفا موسوعيا في كل مجالات وحقول الثقافة والابداع لكن ذلك يحدث بمعنى أن يلم أو يبدع في كل حقل إلماما عاما لا إلماما تفصيليا على نحو ما يتفرغ مثقفو ومبدعو كل حقل لمجالهم الذي انقطعوا إليه. ذلك انه من الاستحالة بمكان أن يجمع المرء عشر رمانات في يد واحدة ويكرس طوال حياته الفكرية والثقافية للإبداع والتميز في كل تلك الحقول. اما في أحسن الأحوال افتراضا فتلك التي يعبر فيها المرء عن نبوغه ومثابرته الابداعية أو العلمية بالنبوغ في مجالين أو ثلاثة على الأكثر.
هكذا كانت سيرة الحياة الثقافية والفكرية للراحلين التوأمين المصريين محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، والحافلة بالابداع والنبوغ العلمي والفكري في مجالات عديدة، وان حاولا أن يكرسا نتاجاتهما الثقافية والفكرية والعلمية لحقل أو حقلين دون سواهما، وان طغى ايضا احدهما على الآخر في ظل انشغالهما به، ألا هو حقل العمل السياسي الفكري والحركي معا.
وكل مثقف حتى لو كان ذا نزعة موسوعية في نهله من نهر الثقافة والابداع العظيم بكل روافده، لا يستطيع في النهاية سوى التفرغ للعطاء من رافد أو رافدين من ذلك النهر.
كان الفقيد العالم قد دخل حقل الأدب والثقافة من باب الفلسفة العريض، ومن هذا الباب العريض ولج الى حقل السياسة والفكر الأعرض، وانتمى كلاهما الى الفكر الاشتراكي العلمي القائم على منهجية المادية التاريخية. أما الفقيد عبدالعظيم فقد دخل حقل السياسة من باب مختلف تماما ألا هو التخصص في علم الرياضيات وتحديدا الرياضة البحتة حيث كان استاذا لهذه المادة في جامعات القاهرة، وعين شمس، والاسكندرية وكان قبل ذلك قام بتدريسها في جامعة لندن خلال اواسط الخمسينيات، وكان عبدالعظيم يعشق هذا الحقل العلمي الذي نبغ وتميز فيه باعتراف قرائنه من علماء الرياضيات كعشقه للعمل السياسي فكريا وحركيا وان طغى هذا العمل في النهاية، كحال كل السياسيين المهمومين الموجوعين بأوجاع وهموم شعوبهم على اهتمامه بالعمل الاكاديمي الرياضي العلمي وان ظل يمتهنه حتى احالته على “المعاش”.
وهكذا كان الأمر فيما يتعلق برفيقه وتوأمه محمود العالم، ولئن كان العالم قد زاوج بين اهتمامه العلمي الفلسفي باهتماماته الفكرية والسياسية عبر ترابط فكري واحد منسجم لا تفصم عراه، فقد تعذر عليه أن يكرس حياته على الدوام لحقل النقد الادبي كما كرسها للعمل الفكري والسياسي الذي نبغ فيه ايما نبوغ وخلّف وراءه كنزا ثمينا للأجيال القادمة المتعاقبة، هذا مع انه، على حد تعبير الاستاذ الجامعي والناقد الادبي الكبير الدكتور صلاح فضل يعد “مؤسس المدرسة السياسية في نقد الأدب وتوجيهه، وصانع منظومتها المحكمة على عينه في مختلف مراحل حياته، مع خاصية جوهرية هي انه ظل يقوم بذلك بصدق واخلاص الرهبان المتوحدين الكبار”. وان كنا نميل الى القول انه احد رواد هذه المدرسة الأساسيين وليس مؤسسها الوحيد، اذا ما تذكرنا الجهود المبكرة لمن سبقوه من مثقفي ومفكري اليسار خلال النصف الاول من القرن العشرين في النقد الادبي ودراسة التراث الادبي والفكري العربي وفق منهج المادية التاريخية، هذا الى جانب جهود واعمال رفيقه الشهيد اللبناني الراحل المفكر حسين مروة. لكن ذلك لا ينفي ان دور العالم في بلورة هذه المدرسة كان الاكثر وضوحا ورصانة، بصرف النظر عما شاب بواكير الممارسة النقدية الادبية في الخمسينيات من مراهقة يسارية ان جاز القول، اعترف هو وتوأمه أنيس بذلك لاحقا في مقدمة الطبعة الثانية عام 1989 من كتابهما الذي زلزل الحياة الثقافية والادبية في بلادهما خلال اواسط الخمسينيات “في الثقافة المصرية” حيث لفتا اليه انتباه رموز ادبية ثقافية شامخة مثل الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد اللذين هاجما قبلا وبعدا مقالاتهما بضراوة بالغة رغم ان العالم وأنيس كانا شابين في مطلع ثلاثينيات عمريهما حينذاك.
ولم ينقطع العالم عن محراب عمله الفكري رغم متاعب وامراض الشيخوخة (87 عاما) حتى اللحظات الاخيرة من حياته وكان اهم عمل فكري اعلامي بحثي رائد يحسب له بعد عودته الى مصر في اواسط الثمانينيات من المنفى تأسيسه دورية “قضايا فكرية” الرصينة الزاخرة ببحوثها ودراساتها العلمية والفكرية السياسية، والتي سيخلف غيابه عنها فراغا يصعب تعويضه هذا اذا ما قيض لها اصلا ان يحمل لواء متابعة اصدارها فارس آخر، اما في منفاه بباريس طوال النصف الثاني من السبعينيات واوائل الثمانينيات ابان حكم الرئيس السادات فكان له ولرفيقه الراحل ميشيل كامل الفضل في اصدار مجلة “اليسار العربي” والتي كانت تصلني بريديا في تلك الفترة بصورة متقطعة، ثم توقفت عن الصدور نهائيا بعد عودته الى وطنه، ليدشن مشروعه الاعلامي، دورية “قضايا فكرية” والتي ظل يساعده في اعدادها واصدارها على مدى نحو ربع قرن رفاقه كل من جمال الشرقاوي، وماجدة رفاعة ومحمود الهندي، ولم اكن اعرف إلا منه تحديدا أن ماجدة رفاعة هي حفيدة المصلح والمفكر التنويري المصري العربي رفاعة الطهطاوي، وأتذكر جيدا انه حينما عرّف شخصيتها لي كان يشير الى نسبها ذلك بنبرة ونظرة لا تخلوان من الاعتزاز.

صحيفة اخبار الخليج
25 مارس 2009