تطور الشرق وتطور الغرب في مسارين مختلفين خلال العصور السابقة، ولم يستطع الشرق أن يؤسس الرأسمالية وأن يطورها بسبب ضخامة قاراته وسيطرات الدول المطلقة فيه.
رغم أن عناصر الرأسمالية مثل البضاعة، والنقد، والتسليف نشأت وتطورت فيه.
واستطاعت الرأسمالية في الغرب أن تتطور بشكل متسع وبطيء، مستعيرة عوامل رأسمالية من الشرق، وذلك بسبب صغر القارة الأوروبية، التي تشمل بصفة خاصة غربها، وعدم وجود دول كبيرة مطلقة الحكم ذات رسوخ فيها.
وبهذا لأول مرة في التاريخ حصلت الرأسمالية على حقل ممهد وقابل للتطور الكوني.
فعلى خلاف أساليب الإنتاج السابقة الراكدة، المناطقية، القارية، كانت الرأسمالية كونية. فهي تقوم على الصناعة أساساً، والصناعة بحاجة إلى مواد طبيعية، وبحاجة إلى عمل مأجور محرر من العبودية بالمعنى الضيق للكلمة، وبحاجة إلى تطور العلوم، وفي هذا الزمن كانت مواد علمية كثيرة قد راكمتها الحضاراتُ الإنسانية السابقة.
فترافقت الاكتشافاتُ الجغرافية مع توحيد أولي تجاري للكرة الأرضية، ومع تدفق المواد الخام على الصناعة، وتداخل العلوم بالصناعة وبالحياة الاجتماعية.
عبر تطورات الرأسمالية الأوروبية الغربية – الأمريكية تم إدخال منظومة البلدان الآسيوية والافريقية والأمريكية اللاتينية في هذا النمو التاريخي التوحيدي المتناقض.
لقد قامت الحضارات القديمة في آسيا وأفريقيا بالتصدي لنمو الرأسمالية التي اتخذ طابع الغزو، وكان يعني كذلك تطور الصناعات الغربية ومدها بالمواد الخام، ونقلها إلى مراحل جديدة من الأتمتة والثورة الصناعية.
وفيما كانت الأمم الشرقية تتصدى للغزو الغربي السياسي كانت تهضم منتجات الغرب التحديثية، وتترسمل، وتبحث عن طرق جديدة تسريعية لتشكيل الرأسمالية، فوجدتها في طرق تطورها الخاصة، أي في أجهزة الدول العملاقة، التي صارت هي مالكة الرأسمال الأكبر، فسرعت من التطور الصناعي، فنقلت النتاج الغربي وأضفت تحسينات عليه، ودعمته بقوة القوى العاملة الهائلة لديها وبرخصها، وبقدرتها على التخصص والتعمق، وحدث تضافر بين الرافدين الرأسماليين الكبيرين الغربي المتجذر، والشرقي الطارئ النامي، في ظرف قرن واحد.
وإذا كانت الرأسمالية الغربية قد اعتمدت بشكل كبير على العمل الشخصي، وعمقت الرأسمالية الفردية نشاطاتها، بمحدودية أفقها وبغياب التخطيط على المستويين الوطني والعالمي منها، فإن الرأسمالية الشرقية قد اعتمدت أساساً على الرأسمالية الحكومية العامة، التي كانت لديها ميزات التخطيط والبرمجة الطويلة الأمد، والاستخدام الكثيف لقوى العمل الرخيصة.
وقد بدا هذا واضحاً في الدول ذات الكثافة السكانية والاتساع الجغرافي.
لكن الرافدين الكبيرين للرأسمالية العالمية أخذا في العقود الأخيرة منحىً مشتركاً، فبدأت تتشكل رأسماليات عالمية مناطقية كبرى، فراحت الرأسماليات الغربية تتوحد في كيانات جغرافية كبيرة، كالسوق الأوروبية المشتركة، ووحدة الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ووحدة دول وشرق وجنوب آسيا.
وهذه الوحدات الكبرى لا تنفي التداخل العالمي الكبير بين رافدي الرأسمالية الغربية والشرقية، فدور الدول أخذ يتقلص في الشرق، وصعدت الرأسماليات الخاصة، مثلما تقلص الدور الشخصي المطلق في الغرب وأخذت الدول تتدخل في العمليات الاقتصادية، وتخفف من أثر الدورات العمياء للأسواق، وتنقذ شركات من الأفلاس، وتعيد النظر في نمو الأسواق بطريقة فوضوية.
لكن دور الدول لم ينته من الشرق فمازالت دول كثيرة قابضة على مجرى العمليات الاقتصادية، بشكل مضر في كثير من الأحيان، بسبب أن هذه الدول تعبر عن سيطرات قوى سياسية متنفذة، ولا تعبر عن التوازن الخلاق بين القطاعات العامة والقطاعات الخاصة.
وهو أمرٌ سوف يؤدي إلى تدخل قوى العمل السياسي والحركات العمالية الجماهيرية للحد من سيطرات القوى البيروقراطية على الثروة العامة، وعلى تجميد التطور التقني في الشرق، وعلى هدر الثروة.
مثلما أن تصاعد دور الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والحركات العمالية في الغرب يقوي دور الدول، ويحد من سيطرات الشركات الكبرى على الاقتصاد وعلى الحياة السياسية.
وهكذا فإن الغرب والشرق يلتقيان مع استمرار الصراعات وتنامي الوحدة البشرية، ويتبادلان المنتجات والخبرة، وتتشكل هيئات مشتركة للسيطرة على مشكلات البشرية المتفاقمة.
تزداد مع الزمن أدوار الجمهور وعمليات التأثير في الأجهزة الاقتصادية والسياسية، وتتحول الحكومات للتعبير عن هذه الجماهير العاملة، من دون زوال الرأسمالية، وهو ما يبدو في المنظور لهذه الصراعات ولهذه الرأسمالية التي غدت كونية، ولاتزال لها آفاق غير منظورة كلياً.
وتعتمد أمور التطور على تبدلات أساليب الإنتاج واكتشافات المواد التي تقوم بإحداث انقلابات اقتصادية في وضع القوى، مثل نضوب النفط، وإكتشاف طاقات جديدة، لكن الرأسماليات متجهة أكثر فأكثر نحو رأسماليات عالمية تقرر تطوراتها الشعوب والديمقراطية في كل بلد.
صحيفة اخبار الخليج
25 مارس 2009