أخال أن خبر وفاة شيخ محمد رياض الذي توفي أمس الأول متأثراً بحروق عميقة كان صفعة لنا جميعاً.. فأن يقصد إنسانٌ (قرصهُ العوز) أرضنا طلباً للعمل الشريف فنعيده إلى أهله جثة مسجاة أتت الحروق على وجهها وأجزاء كبيرة من جسدها، فأمرٌ جلل يستوجب الخجل.. ويستوجب وقفة صادقة لإعادة تقييم الأوضاع التي لا يبدو أنها تتجه إلا إلى الأسوأ!
في زيارتي الأخيرة لتركيا رمقت صورة شابة تتصدر الصفحات الأولى للمجلات والصحف مع بنط عريض يصرخ بوجه القارئ.. وبعد السؤال علمت أن الصورة هي لشابة بوليفية خسرت مالها في إسبانيا وقررت العودة إلى بلدها بالتنقل من مركبة إلى أخرى سائلةً الناس توصيلها.. وقد عبرت أوروبا بهذه الطريقة ووصلت إلى مشارف تركيا بسلام، ولكنها اغتصبت وقتلت في تركيا!
وقد أثار قتلها نقمة وسخطاً بين الجماهير وتساؤلات عن التدني الأخلاقي في البلاد.. وعُلّقت في الطرقات ملصقات حملت صورة الفتاة مذيلة بعبارة تقول: لقد عبرت أوروبا كلها بسلام.. وعار علينا أن تقتل عندنا!
هناك.. أنّبت الجماهير التركية نفسها على الجريمة، وأعتقد أن علينا أن نفعل المثل في قضية شيخ محمد.. فقد ساهمنا – كلٌ بطريقته أو بصمته ربما – في حفر قبر هذا الرجل الذي لن يكون الضحية الأخيرة إذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال.. فالجنوح للعنف بات يتزايد عند المتظاهرين ورجال الأمن على حد سواء.. مساء أمس طاردتني صورة أب الأيتام الخمسة، وصور عدة لإصابات خلفتها الحوادث؛ فشرعت أسأل:
من يبدأ بالعنف؟ ووجدته سؤالاً عابثاً كسؤال البيضة والدجاجة.. فقوات الأمن لن تقف مكتوفة أمام قطع الطرقات وحرق الممتلكات وزعزعة الاستقرار.. كما لن تقبل على نفسها إظهار الضعف وقلة الحيلة أمام المتظاهرين.
على الطرف المقابل، هناك متظاهرون (لم يستخدموا العنف شخصياً) ولكنهم يواجهون بعنف الأمن فيردون عليه بالمثل.. لا تكافؤ في هذه المواجهات – قد يقول البعض – ولكن العالمِين ببواطن الأمور يعون أن صورة شاب ينزف من جراء ضربه بهراوة أو رصاصة مطاطية هي ضربة ولا أقوى للسلطة ورجال الأمن.. وإن كانت جروح الشاب ستندمل بعد أسابيع، فإن ما ستخلقه هذه الصور من ضرر قد يكون دائماً!
هوجة العنف هذه لن تقودنا إلى شيء (هذه هي الحقيقة الوحيدة الثابتة).. يكفيكم أن منسوب الاحتقان قد تعالى.. مناطقنا صارت مدن أشباح.. ومن يشق شوارع القرى يظن أن آلة الزمن قد عادت به إلى التسعينات.. شوارع متعرجة عملت الإطارات المحترقة فيها عملها.. طرقات مظلمة.. قوات موزعة بكثافة بين الشبر والآخر ببزاتهم العسكرية وأسلحتهم ونظراتهم الشاخصة المترقبة!
تذكرت وأنا أمر بجدحفص ما روته لي إحداهن أمس الأول عن عاصمة خليجية وصفتها بمدينة الأضواء، والتي غدا السائر في مناطقها الشعبية يظن أنه في حضرة كرنفال لشدة زهو المكان بالإنارة.. في المقابل يرى الخارج من منطقة السيف (المنطقة الوحيدة التي تصلح مقصداً للسياح) المناطق التي تطوقها وقد اتشحت بالسواد وتفوح منها روائح القلق والضيق المختلطة برائحة مسيلات الدموع والإطارات المحترقة!
حقاً.. ماذا نفعل بأنفسنا؟!
لا مكان في النفس لقول المزيد.. إنما نأمل (كوننا شعباً تسيّره الفتاوى) من المرجعيات بفتوى جريئة تحرّم المواجهة الجسدية والاحتجاج العنيف بأي شكل وصيغة.. ولنا مع هذا الحديث عودة.
الوقت 23 مارس 2009