المنشور

التوأمان العالم وأنيس.. والجيل الرسالي (1-3)

حينما غيّب الموت المفكرين المصريين العربيين الكبيرين محمود أمين العالم وعبدالعظيم انيس خلال اقل من اسبوع واحد في النصف الأول من شهر يناير الماضي كانت المذابح الوحشية التي تنفذها آلة الحرب العدوانية الصهيونية بحق سكان غزة المدنيين على اشدها، لا تكاد تسمح للمرء العربي في زمن الضياع والمهانة ان يلتقط أنفاسه، وهو مكلوم يتابع السهرات التلفزيونية اليومية لمسلسل أهوال وفظائع تلك المذابح، لكتابة مرثية بصفاء ذهني يليق بجلال مكانة هذين العملاقين المفكرين الرفيقين التوأمين للتعبير عن مدى حجم الخسارة الفادحة التي منيت بها الساحتان الفكرية والسياسية مصريا وعربيا برحيلهما الفاجع. فلربما لم يسبق في تاريخ الحركة السياسية والفكرية بكل الاقطار العربية ان ارتبط مثقفان سياسيان كبيران بتوأمة روحية وفكرية وانسانية وعمرية على مدى ستة عقود متواصلة تقريبا، كما ارتبط العالم وانيس، واللذان دشنا علاقتهما الثقافية المشتركة بالمساهمة في ارساء وتأصيل التنظير للمدرسة الواقعية النقدية الاشتراكية وتطبيقها على الأدب العربي، قديمه وجديده، في مؤلفهما المشترك الشهير “في الثقافة المصرية” الذي صدر عام 1955م. ثم شاءت المقادير ان يغادرا دنيانا بفاصل زمني لا يتجاوز بضعة أيام. هما اللذان أبصرا على الدنيا في وقت متزامن تقريبا أيضا لا يفصل بينهما سوى عام واحد أو أقل، فالأول ولد في عام 1922م فيما ولد الثاني عام 1923م.
حينما ذهبت إلى القاهرة للدراسة الجامعية في اوائل سبعينيات القرن الماضي في اوج عنفوان وحماس سن المراهقة، حيث لم يكد عمري يتجاوز حينئذ السابعة عشرة، اتذكر جيدا حينها بقدر ما كنت سعيدا جدا بأن حصلت على بعثة دراسية إلى هذه العاصمة العربية الساحرة التي لطالما داعبت مخيلتي منذ الطفولة المتأخرة ان اراها على الطبيعة وبدت امكانية زيارتي لها حلما اشبه بالمستحيل، بمعنى ان أرى القاهرة على الواقع كما هي، وليس في الافلام أو في صور المجلات والصحافة المصرية والتي كنت مدمنا منذ الطفولة على قراءتها بانتظام، بقدر ما كنت أشعر بالغصة الكبيرة لأني وصلت للإقامة فيها غداة رحيل الرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر من دون أن اراه. أما عشية انتهاء دراستي في القاهرة فكنت اتمنى، ضمن ما كنت ما اتمناه، أن اتعرف في القاهرة يوما على المفكر المصري العربي الراحل محمود العالم، لكن كم هي المصادفات والمقادير غريبة! فالمفكر الذي كنت اتمنى ان اتعرف عليه في بلاده في القاهرة او في منفاه الطويل تشاء المصادفات ان اتعرف عليه هنا في بلادي البحرين، وذلك بمناسبة زيارته لها في أواخر التسعينيات لإلقاء محاضرة سياسية حول النهضة العربية بدعوة من نادي الخريجين. وفي نفس يوم التقائي به في بهو الاستقبال بفندق “الشيراتون” بعد وصوله مباشرة من المطار، ما ان رآني مقدما نحو مكان جلوسه مع بعض البحرينيين وقبل ان يعرفه احد منهم عليّ، بدا من محياه الوديع والأليف وبابتسامته الفطرية العريضة والرزينة في آن واحد وكأنه يعرفني من قبل، فنهض في الحال من كرسيه وهكذا تعانقنا تلقائيا على الفور، ثم عرّفه احد مرافقيه الجالسين معه بي.
وطوال أيام اقامته بالبحرين جرت بيني وبينه عدة لقاءات تجاذبت معه فيها مختلف الاحاديث والحوارات حول كل شيء، بدءا مما هو معروف وغير معروف من سيرة حياته الشخصية، ومرورا بما هو معلوم وغير معلوم من سيرة حياته السياسية والحزبية في الماضي والحاضر، وليس انتهاء بمنظوره الى مستقبل الحركة الاشتراكية واليسارية الغائم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي المدوي وأزمة اليسار العربي بوجه عام واليسار المصري بوجه خاص، ونقاط الالتقاء والاختلاف بينه وبين حزب التجمع التقدمي الوحدوي. بعض هذه الحوارات سجلتها على اشرطة كاسيت ونشرت لي “أخبار الخليج” جزءا منها، وبعضها الآخر دوّنته في مفكرتي الخاصة في حين لم يكن من الملائم تدوين أو تسجيل كل جلسات دردشاتنا الاخرى لكي لا تتحول كل لقاءاتنا الانسانية الودية، سواء خلال زيارته الأولى للبحرين بدعوة من نادي الخريجين ام خلال زيارته الثانية والاخيرة بدعوة، ان لم تخني الذاكرة، من “المنبر التقدمي”، إلى حوارات وجلسات عمل صحفية وبالتالي فقد اودعت ما استفدت منه في تلك “الدردشات” مخزون الذاكرة.
بعد ذلك استمرت علاقتنا من خلال اتصالاتي به الهاتفية ولم تنقطع لظروف معاكسة خاصة به او خاصة بي إلا منذ نحو عامين تقريبا.
والحال ان كل من يتعرف على هذا المفكر الانسان الفذ المتواضع تواضعا فطريا غير مصطنع يشعر على الفور بالألفة معه وبما يمتلكه من خبرات هائلة في الفكر والثقافة والسياسة. وبهذا فلن يقدر حجم الفداحة التي يشكلها رحيله الا من تعرف عليه من قرب او على جانب من أعماله القيمة التي خلفها لشعبه وامته وهي اكبر ميراث لا يقدر بثمن يتركه أي مفكر او مبدع كبير وراءه عند رحيله.
يتفق المرء أو يختلف بهذا القدر او ذاك مع المفكر العالم سواء من موقع الانتماء الفكري الواحد المشترك الذي ينتمي اليه العالم أو من موقع تيار فكري آخر لكن لا يملك الا ان يجل ويقدر عاليا هذه القامة الفكرية السامقة التي كان يمثلها العالم بما قدمه من عطاءات ثقافية وفكرية وتضحيات سياسية قل مثيلها.
ومع ان الفقيد الراحل العالم لم يكن بوسعه ازاء الموجة التجديدية التي هبت على العالم على اثر انهيار الاتحاد السوفييتي وتأثر بها حتى شباب ومخضرمو الحركات اليسارية الا ان يكون امينا ومتكيفا مع ارثوذكسيته اليسارية التي جبل عليها والتي كان تجديديا في العصر الذي برز فيه قياسا بالارثوذكسية الستالينية فانه كان ، مع ذلك، من القلة في جيله من مفكري وقادة اليسار الذين تفهموا هذه الموجة التجديدية والنقدية التي تأثر بها قطاع من شباب ومخضرمي الحركات اليسارية والشيوعية في زمن أفول هذه الحركات، ولم يبدوا أي انزعاج أو تبرم منها، لا بل شاركهم رغم شيخوخته وبلوغه من العمر عتيا، جانبا من انتقاداتهم القاسية للأخطاء القاتلة التي وقع فيها كل من الاتحاد السوفييتي والحركات اليسارية والشيوعية العربية.

صحيفة اخبار الخليج
24 مارس 2009