حسناً فعلت اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع حين اختارت الدكتور محمد جابر الأنصاري لتكرمه هذا العام, فالرجل مُستحق لمثل هذا التكريم, ليس اليوم فقط, وإنما قبل ذلك بكثير, بالنظر لأهمية المشروع الفكري الذي أعطاه سنوات طويلة من عمره, فقدم مساهمة أساسية للفكر العربي المعاصر, في معالجته للقضايا المفصلية والإشكالية في تطور المجتمعات العربية. وفي تصديه لمشروعه الفكري امتلك الدكتور الأنصاري وعياً بالتاريخ, وظفه بصورة خلاقة في رصده لمظاهر الخلل في علاقة العرب بالسياسة, وتحليله لكوابح التطور الحضاري الناجز, وفي تفكيكه لبنى المجتمع والدولة على حد سواء, في الواقع العربي الراهن, ليكشف ببصيرة المفكر لماذا يتعثر العرب في النهضة. ولم يُقدم الأنصاري على مغامرة اقتحام هذه الحقول البحثية الشائكة, لولا امتلاكه لمنهج في التحليل منفتح على المدارس الفكرية والفلسفية المختلفة, فاستفاد مما وجده ضرورياً لاغناء عدته المنهجية. ومن هنا أهمية تلك الإشارة اللماحة التي وردت في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريمه, حين أكد أن الأساس هو التمسك بمنهجية التوجه الفكري لا حرفية النتائج التي توصل إليها في حد ذاتها. لكن هذا القول لا يحجب أهمية النتائج التي وصل إليها, والتي تجد صُدقية لها في ما تذهب إليه التحولات الاجتماعية – السياسية في عالمنا العربي اليوم, فحين غامر الأنصاري في مطالع تسعينيات القرن الماضي في تحدي النشيد الرومانسي المهيمن على الخطابات القومية في نبذ الدولة الوطنية العربية, أو ما اصطلح على وصفها بالقطرية, ليدافع عن هذه الدولة باعتبارها منجزاً وحدوياً بامتياز في بيئة لم تعرف الدولة أصلاً, كان كمن يقرأ المستقبل ببصيرة وذكاء. فمن يتأمل مظاهر انحلال بعض نماذج الدولة القطرية العربية اليوم وتفككها مجددا إلى تكوينات تقليدية, على شكل عشائر وقبائل وطوائف وما إلى ذلك سابقة للدولة كمنجز حديث, يدرك أهمية ما ذهب إليه الأنصاري الذي رأى ألا تحمل روابط الدين واللغة والثقافة والحضارة أكثر مما تحتمل, فهذه الروابط المعنوية على أهميتها لا تكفي لإقامة البنيان السياسي المؤسساتي للكيان الواحد. وهكذا فنحن اليوم شهود لا على تبلور وتطور مشروع وحدوي قومي كذاك الذي ضجت به بعض أدبياتنا, في مرحلة من المراحل, وإنما على مخاطر تفكك الدول الوطنية, أو القطرية, ذاتها إلى التشكيلات السابقة لنشوئها, لأنه لم يجر الالتفات الجدي لبناء مقومات الدولة الحديثة, فالدولة القطرية الحالية ظلت في تقدير الباحث «مشروع دولة» ولم تصل بعد إلى مرحلة الدولة المكتملة التكوين والنضج والمؤسسات والتقاليد والنظم. إن التغيير في الدولة يتم بعد إن تنضج الدولة ذاتها, ولدى الأنصاري ما يحاجج به بإقناع: هل كان بإمكان الثورة الفرنسية أن تندلع لولا ما بلغته الدولة هناك من نضج وقوة في عهد لويس الرابع عشر, وهل كانت الثورة البلشفية ستقوم في روسيا لولا إصلاحات بطرس الأكبر في بناء مؤسسات الدولة الروسية ومقوماتها؟ سينسحب هذا الاستنتاج على المسألة الديمقراطية, فلا يمكن توقع بناء ديمقراطي بدون ديمقراطيين وقوى ديمقراطية, في مفاهيمها وتكوينها واستعدادها لقبول قواعد الديمقراطية من حيث هي نظام عصري مديني.
صحيفة الايام
24 مارس 2009