المنشور

فرنسا.. ابن الناتو «الضال»؟

في 4 أبريل/ نيسان المقبل ستحتفل منظمة معاهدة شمال الأطلسي الناتو (North Atlantic Treaty Organization, NATO) بالذكرى الستين لتأسيسها في واشنطن العام .1949 فرنسا وبريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية هي الدول الرئيسة المؤسسة للحلف الذي ضم أيضا بلجيكا، بريطانيا، الدنمرك، إيطاليا، أيسلندة، كندا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج والبرتغال.
كانت تلك إرادة الولايات المتحدة الأميركية التي فرضتها على أوربا الغربية لمواجهة ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام المنظومة الاشتراكية العالمية بقيادة الاتحاد السوفييتي. شهد الناتو خمس موجات توسع بضم اليونان وتركيا (1952)، ألمانيا (1955)، إسبانيا (1982)، هنغاريا، بولندا والتشيك (1999)، بلغاريا، لاتفيا، لتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا واستونيا (2004). وسيشهد الموجة السادسة يوم 4 أبريل/ نيسان المقبل بضم ألبانيا وكرواتيا.
وبعد أكثر من عقد ونصف من تجربة فرنسا مع الناتو العسكري عز على الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول استمرار وجود قوات عسكرية أميركية على أراضي الجمهورية الخامسة. وأصبح ينظر إلى وجود قسم من القوات المسلحة الفرنسية تحت الإمرة الأميركية على أنه إهانة شخصية لتاريخه العسكري. كما رأى أن التكامل الأطلسي عرقل بشدة عملية التكامل الأوروبي العام الذي كانت تدعو إليه فرنسا. وأدرك أن فرنسا لن تستطيع إنقاذ عزتها القومية ولعب دورها الريادي في توحيد أوروبا إلا عندما تمتلك سياستها الخارجية، بما في ذلك العسكرية المستقلة عن أميركا وغير الخاضعة لمصالحها. ولم تكن عقيدة ‘كبح الاتحاد السوفييتي ورميه خلفا’ تعجب الرئيس الفرنسي، وفضل بدلا عنها مفهوم الدفاع ‘على كل الأقواس’. وكانت فرنسا في ذلك قد تمكنت من امتلاك سلاحها النووي الخاص.[1]
وهكذا أعلن ديغول العام 1966 انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية للناتو مع الإبقاء على هذه العضوية في إطار التنظيم السياسي للحلف. أقدم على طرد الحلفاء من باريس فكان عليهم أن ينتقلوا إلى بروكسل بشكل مفاجئ. ولعل كثيرين ممن عاصروا ذلك الانتقال يتذكرون قطعة الموزاييك التركية كشاهد على الحدث. كانت تلك هدية تركيا لمقر الناتو، والتي تعين نقلها إلى بروكسل على عجل. وتعبيرا عن الشؤم الذي حل بالناتو حينها قيل تندرا أن ‘قطة سوداء’ خطرت بين فرنسا وأميركا.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء ‘الحرب الباردة’ شهدنا عالم القطب الواحد تحت القيادة الأميركية. وفي هذا العالم وجدت باريس التي تشكل مركز تلاقح الحضارات والثقافات العالمية نفسها تخضع من جديد، ولو جزئيا، لسياسة استخدام القوة للتدخل في النزاعات حول العالم الذي تقود أميركا الناتو إليه. فمنذ العام 1995 شاركت في عمليات عسكرية من دون أن تكون لها أية مساهمات في التخطيط لها كحرب العراق الأولى وفي عمليات الناتو في يوغسلافيا وأفغانستان، بينما امتنعت عن المشاركة في حرب العراق الثانية وتحركت ‘أوروبيا’ بالمبادرة الفرنسية المصرية بشأن غزة بعد العدوان الإسرائيلي.
لكن كثيرا من المحللين والمؤرخين يرون أنه إذا كان الرئيس ديغول قد جاء على مقاس فرنسا حقا، فإن الرئيس الحالي ليس على هذا المقاس من نواح كثيرة. ورغم أن الحظ حالفه إذ جاء رئيسا لفرنسا وللاتحاد الأوربي دفعة واحدة، وفي فترة شهد العالم نزعة أوروبا للاستقلال عن الولايات المتحدة، ما يمكن أن يعطي لساركوزي ثقلا عالميا أكبر، إلا أنه منذ صيف العام 2007 كان يكرر تصريحاته عن احتمال عودة فرنسا إلى الناتو العسكري. والآن استطاع بغالبيته البرلمانية انتزاع قرار بإعادة فرنسا إلى القيادة العسكرية للناتو والتي سيعلن عنها في القمة الاحتفالية للناتو في ستراسبورغ وبروكسل يومي 3 و4 أبريل/ نيسان المقبل. وهكذا، وكما كان مخططا فستعود فرنسا لاحتلال 800 منصب قيادي في تشكيلات الناتو.[2] وفي اختتام أعمال مؤتمر ‘فرنسا، الدفاع الأوروبي والناتو في القرن ,’21 الذي نظمه صندوق الأبحاث الاستراتيجية FRS برر ساركوزي خطوته بالقول إن ‘عدم قدرتنا على احتلال مكاننا في هذا التحالف بوضوح يضع أهدافنا موضع شك. وبالنتيجة لدينا حلف ليس أوروبيا بما فيه الكفاية، والأمن الأوربي يتطور ليس على الشاكلة التي نريد’، مؤكدا أن إعادة التكامل في الناتو لا تهدد الأمن الوطني، وأن فرنسا ستحتفظ بقوة الردع النووية وحق الاختيار في حالة إرسال قواتها للمشاركة في عمليات الحلف.
منتقدو عودة فرنسا للناتو العسكري يرون العكس تماما. فهم يعتقدون بأن فرنسا ستصبح أكثر تبعية لواشنطن وستكون مضطرة لإعادة كتابة تشريعاتها بشأن الأمور الدفاعية. الاشتراكيون وقفوا ضد هذه العودة. وطالب الشيوعيون بإجراء استفتاء شعبي عام حول هذه المسألة. وقد انتقد ساركوزي النائبان الاشتراكيان ليونيل جوسبان ولوران فابيوس، وهما رئيسا وزراء سابقان وكذلك يمينيون بارزون كرؤساء وزراء سابقين مثل دومينيك دي فيلبين وألان جوبيه وبعض أعضاء الحزب الحاكم ‘الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (UMP)’ رأوا أن هذه الخطوة ستهدم استقلال السياسة الخارجية الفرنسية عن الولايات المتحدة الأميركية. ومن بين مختلف آراء الخبراء والسياسيين حول عودة فرنسا للناتو العسكري يضع دميتري روزوغين، ممثل روسيا لدى الناتو النقاط على الحروف ‘حتى الآن ظلت المعارضة للأميركيين من داخل الناتو تستند إلى فرنسا المستقلة كحليف لها في الصراع مع واشنطن. فإلى من سيستند الفرنسيون أنفسهم الآن من داخل الناتو؟ لا أحد يعرف[3]’.حتى الآن نجح ساركوزي في تمرير القرار رغم معارضة كبيرة له في الجمعية الوطنية الفرنسية (إلى جانب الحكومة صوت 329 مقابل 238 عضوا). وكان قد نجح في إسكات أول سخط شعبي ضده مباشرة بعد توليه الرئاسة، فهل سينجح في مواجهة ملايين الغاضبين الفرنسيين المحتجين ضد سياساته في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية وضد سياساته عموما؟

[1] راجع الوصلة: http://www.vesti.ru/doc.html?id=264092
[2] راجع الوصلة: http://www.rbcdaily.ru/2009/03/13/focus/405872
[3] انظر:http://www.rbcdaily.ru/2009/03/13/focus/405872

صحيفة الوقت
23 مارس 2009