المنشور

برلمانات خليجية ضعيفة

عرفت الجزيرة العربية البرلمانات بصور متأخرة، ولم تستطع أن تكون سلطة تشريعية قوية مستقلة، مطردة النمو والتجذر في الأرض السياسية.
كذلك نجدها في بلدان متنائية صغيرة، أشبه بالمدن، كالكويت والبحرين، في حين جاءت التجربة البرلمانية اليمنية في أعقاب سيطرة مؤسسة الرئاسة سيطرة كلية على الحياة السياسية، أما بقية دول الخليج فلم تعرف البرلمانات المنتخبة بشكل حر ومباشر من قبل الجمهور.
إن ضعف التجارب البرلمانية ليس فقط في عدم السماح لها بالوجود والبقاء والتجذر وعبر خلق مؤسسات ديمقراطية على مختلف الأصعدة، بل كذلك في تيئيس الناس من وجودها، وعدم التعاون الوثيق معها، وفرملة جهودها ووضع العصي في دواليبها المترنحة!
تشعر الحكومات في المنطقة بأن البرلمانات تنافسها على السلطة، وتضعف من هيبتها، وأنها تزايد عليها، فهي قد عاشت على عدم وجود رقابة ثم وجدت رقابات منافسة وأحياناً طفولية، ولكن هذا من طبيعة ظروف مجتمعات كانت السلطات فيها هي الكل في الكل، ثم تغيرت الأوضاع ولم يعد مقبولاً وجود سلطة تنفيذية مطلقة.
وليس معقولاً أن تنشأ البرلمانات ناضجة كلياً ملأى بفلاسفة الحكمة!
إن هذه البرلمانات مجرد رقابة محدودة على الحكومات، ولم تتحول إلى سلطة منافسة، ولا يعينـُها في عملها حشدٌ من المؤسسات والأجهزة، ولم توجد فيها التيارات الحديثة الديمقراطية التي فيها خبرات سياسية واقتصادية وتشريعية كبيرة، بل جاءت من قوى لم تكرس نفسها للعمل البرلماني والديمقراطي العام، ولهذا نجد قلة من حملة الشهادات العليا بينها، فالعديد من النواب هم من القبائل أو من الجماعات البدوية والريفية أو من رجال الدين ذوي الخبرة في الفتاوى والارشاد الديني، أو من المستقلين الذين هم ليسوا مستقلين بل أفرادا تربطهم علاقات قوية بالحكومات، وكل هذه العناصر لا تمثل تحدياً كبيراً لحكومات عاشت على القرارات الواحدة نصف قرن، ولديها من الخبرات والأجهزة ما تدوخ به هؤلاء المستجدين على العمل السياسي.
ومع هذا فإن الحكومات تحصرهم حصراً في تقديم الأسئلة والاقتراحات، لا يتجاوزونها إلا لماماً لتقديم مشروعات متكاملة للقوانين، فإذا طمحوا لاستجواب مسئول أحيطوا بالموانع المختلفة، وتم نقل الاستجوابات إلى اللجان، أو يتم حل البرلمان الضعيف الباهت الصلاحيات، وتقوم البلد وتقف على رجل واحدة وكأن القيامة قد قامت!
ربما تعتقد الحكومات أو من يصور لها ذلك ويقدم تقارير مختزلة متشائمة، بأن أي شيء يجري في هذه البرلمانات سوف يفجرُ الأوضاع، أو يحدثُ بلبلة كبيرة في الشارع، والأمر ليس كذلك، بل ان الناس لا تتابع باهتمام كبير ما يجري من مناقشات أو ما يقترح من تدابير.
الناس لا تهتم كثيراً بكل هذا فهي مشغولة في مطاردة لقمة عيشها، والمهتمون فقط هم النخب السياسية التي هي أعداد محدودة من المواطنين!
أي ان العمل البرلماني الخليجي والعربي عموماً هو من شأن النخب الصغيرة، وليس له كما تتصور الحكومات أو كما يُصور لها نتائج مذهلة، فالبرلمانات لا تحدث الزلازل الاجتماعية ولا تفجر البراكين السياسية!
تعتبر هذه الدوائر الرسمية أن البرلمانات هي من قبيل الصداع السياسي كالصحافة والمواقع الحرة الإلكترونية، والفضائيات (المشاغبة)، والعالم بالنسبة إليها هو وجودها من دون حساب ولا كتاب، وتعتقد أن الأدوات الحديثة من رقابة ومشاركة هي من أدوات إسقاط الأنظمة وهدم المجتمعات المستقرة الآمنة، لا قوة مشاركة في تدعيم هذه الأنظمة وتطويرها وإزاحة الخلل والصدأ من دولايبها التي تتراكم فيها المخلفات وربما تقلبها رأساً على عقب.
البرلمانات أدوات تصحيح وتطوير للأنظمة، وما لا يراه المسؤولون في دوائر القرار، يراه هؤلاء ويصوبونه ويطورونه، فالبرلمانات ليست قاعات انقلابات ولا أدوات اضطرابات!
وإذا جثمنا طويلاً رهن وزارات في يدها كل شيء، ولا تريد سوى أشباح برلمانات، وأن المطلوب هو أن لا يتساءل أحد عن تضييع الملايين من الدنانير بدعوى الأزمة المالية، ولا عن الاستقواء بالعمالات الأجنبية والاثراء على حسابها، ولا عن هذا الهدر المالي على المظاهر والاحتفالات الباذخة وعلى المشروعات الخاصة وغيرها، فإن الثروة النفطية الهائلة تكاد أن تضيع والكثير من الشوارع لاتزال غير مبلطة.
إن العمل الحكومي يبقى ناقصاً بل معرضاً للخطر من عدم وجود أصوات مضادة له، تكشف قصوره، وتعرض آفاقاً جديدة له، وتحافظ على ثروة البلد وتنميها. وتجعل هذه الدول ذات السلطات المتوارثة عقلانية تطور نفسها في زمن الثراء قبل أن تتعرض لعواصف زمن الفقر والجفاف القادم.
وعلى العكس فالمطلوب هو تجذير البرلمانات وتطويرها ومساعدتها على معرفة الوقائع والأوضاع والقصور، لكي تساهم في تقوية الأنظمة وفصل الشوائب عن اللباب.

صحيفة اخبار الخليج
23 مارس 2009