وضع التساوي أو تعادل القوى وضع معروف ومشخّص في كل الألعاب الرياضية بأنواعها ومنها الألعاب الذهنية.. ولعل الوضع الذي يعبّر ويتجسّد -اكثر من غيره- فيما نحن بصدده من مرام، هو لحظة وصول ذروة الصراع على رقعة الشطرنج (لعبة تعبّر عن المسألة خير من أية أداة / لعبة أخرى) إلى ما يطلق عليه عربيا بالمصطلح الشطرنجي وحتى العسكري- إن جاز التعبير مجازيا – ‘الباطة’ وعالميا ‘ستالمات’ Stalemate ، الأمر الذي نرى ما يشبهه في حياتنا الاجتماعية / السياسية في حركة سير المجتمعات(حركة التاريخ).. وهو أمر إشكالي .. بمعنى كيف يمكن أن تقف حركة التاريخ في مرحلة من المراحل أو تراوح مكانها، في حين يكاد الكل يجمع على؛ ‘لا سكونية’ الحركة التاريخية، وذلك لأن تطور المجتمعات البشرية عبارة عن صيرورة دائمة لا تنتهي، متجهة إلى الأمام في شكلها اللولبي! على أية حال هذه إحدى المشاكل العويصة التي يطول الخوض فيها، نترك تفاصيلها التحليلية لوقت ومجال آخرين..غير أن المطروح هنا قد يفيدنا وخاصة بالنسبة للمعنيّين ممن يتعاطون السياسة، الذين يحاولون سلك نهج المقاربة العلمية للتعامل مع الواقع، في تشخيص حالنا وحال مجتمعنا البحريني في اللحظة التاريخية الآنية.
ألا يبدو التطور السياسي في مملكة البحرين أنه يسير في مكانه وكأنه يدور في حلقة مفرغة؟! إن صح هذا الفرض فما هي أسبابه وكيف نفهمه؟ .. نعم دخل المجتمع البحريني المعاصر في الألفية الثالثة إلى طور نوعي من خلال نهج إصلاحي، تجسّد أولا في الحريات السياسية ومعالجة جدّية للمشاكل الاجتماعية وحتى الثقافية، أضحت فيه السلطة السياسية مركونة ومتفهمة لطبيعة وسمه عصرنا المتحول والانتقالي والملتبس أيضا، حيث بدأت تسود رويداً رويداً التأثيرات الخارجية / الدولية، تردنا على شكل موجات من ثقافة سياسية مؤسساتية، منبثقة من دول المركز العالمي متحولة نحو دول التخوم، الأقل تطوراً في تركيبتها الاجتماعية والسياسية وإن بدا الأمر كأنه جزء مما يسمى’الغزو الثقافي الغربي’ والهيمنة الرأسمالية أو الاستعمارية’الامبريالية'(الاستكبارية)!. على أن هذا التأثير والتغيير الايجابيين اللذين شهدتهما البحرين في بداية الألفية ذاتها (الضغط الدولي/ مبادرة الحكم الإصلاحية) لم يوازيهما – وللأسف- سقف معقول من وعي اجتماعي / سياسي موقوت، يمكنه دفع العملية الإصلاحية ورفدها والاستفادة من الايجابيات ‘التقدمية’ للمنظومة الرأسمالية المعاصرة انطلاقا من الفهم التاريخي الصحيح لفكرة أولوية المنظومات الاجتماعية /الاقتصادية/ الثقافية، المتقدمة – بالضرورة- على ما قبلها من منظومات ‘قرونوسطية’. بل صار العكس صحيحان حيث لعب الوعي السياسي/الاجتماعي الواهن والسائد (العاطفي/الطائفي/القبلي) دوراً كابحاً للتقدم والحداثة والتنوير المرتجى. ومما يزيد الطين بّلة أن هذا الشكل من الوعي الاجتماعي/السياسي (الاسلاموي/التقليدي والثورجيّ /الراديكالي) مازال سيد الموقف السياسي وحتى الأمد المنظور، الأمر الذي لا يدعو لأي تفاؤل قريب، بجانب أن هذا النوع من الوعي السياسي يقوم بدور’المعول’ الهدّام لما تم بناؤه وإنجازه من خلال سلك درب’الاحتقانات’الاجتماعية المصطنعة(المناطقية والفئوية)، مما يسهّل بالطبع في تراجع أي’ حكم’ أو أي’نظام’ عن الاستحقاقات الديمقراطية، إن رأى’الفرصة’ المحلية والإقليمية والدولية سانحة له!
لعل صغر رقعة البحرين، حجم اقتصادها المتواضع، موقعها الجيوبوليتيكي، تركيبتها’الموزائيكية’ وإشكاليتها الديموغرافية حدا بها أن تكون من أولى’ضحايا'(بالمعنى الايجابي) هجوم العولمة المعاصرة، المخترقة لنسيج الدول النامية الضعيفة، منها التخوم العربية ومثيلاتها الأكثر هشاشة والأقل حصانة من بين دول العالم.. في وقت تعبّر ظاهرة العولمة في العلاقات الدولية عن إرهاصات تاريخية واستحقاقات عصرية ذي محتوى موضوعي، لا يمكن التملص منها والمراوغة ضدها، من قبل أنظمة حكم مازالت تتسم بضعف مؤسساتي، خواء في التفويض الشعبي ونقص بيّن في الوعي الاجتماعي، وإن بدت لها أو توهمت أنها تملك مساحة من المناورة تؤهلها للحد من الضغط الدولي والتغاضي عن التزامات العهود الدولية، المنبثقة من القانون الدولي، الذي يعمل تحت مظلة الأمم المتحدة. غير أن المشكل هنا هو ‘وضع الباطة السياسية’، الذي حُشِرنا فيه أو حَشَرنا أنفسنا فيه، حيث صار فيه الوضع السياسي/الاجتماعي ضبابي الرؤى.. بل إن البرنامج الإصلاحي برمته قد يكون عرضة للتفريغ عن محتواه التحديثي والتنويري المرجو، إذا ما ظل اللاعبون الكبار غير مدركين ضرورة الخروج من ‘المأزق’ وجدوى اللقاء في منتصف الطريق والتعلق بـ ‘مبادرة’ ما، والركون إلى لغة الحوار للوصول إلى التوافق المجتمعي حول الأساسيات لصون المنجزات وتطويرها للخروج من المنغصات.. هل سنسلك هذا الدرب ضمن شروط اللعبة و انطلاقا من دوامة ‘ المروحة’ ووضعها ‘السكوني’ الحالي الموسوم بالـ ‘باطة السياسية’..أم يجرى البحث عن دور آخر من ‘لعبة الشطرنج السياسية’ ؟!
الوقت 21 مارس 2009