جاء إنشاء الحلف الاطلسي الذي يضم في عضويته الدول الكبرى الغربية وعددا من الاوروبية الرأسمالية الغربية على خلفية بدايات انطلاق الحرب الباردة بين المعسكرين، الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي بعد أن برزت هاتان الدولتان باعتبارهما القوتين العظميين المهيمنتين على النظام الدولي الجديد المتشكل في اعقاب انتصارهما الكبير على المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
ومنذ انشائه ظلت الرسالة التي يتوخاها هذا الحلف أو العقيدة القتالية له، ان جاز القول، التصدي للشيوعية أو المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي وفرض الحصار العسكري عليه أو حتى ردعه عسكريا، إذا لزم الامر.
ولم يكتف هذا الحلف ذو الطبيعة العدوانية الامبريالية بذلك، بل امتدت مهامه الى التصدي لحركات التحرر الوطني في المنطقة العربية وعدد من مناطق العالم الأخرى وذلك بدعوى مواجهة “المد الشيوعي” في ظل تحالف تلك الحركات مع الاتحاد السوفييتي، سواء التي وصلت منها إلى السلطة وحققت لبلدانها انجاز الاستقلال الوطني عن الدول المستعمرة، أم التي مازالت خارج السلطة.
وليس سرا على سبيل المثال، لا الحصر، الدور الذي لعبته تركيا في تقديم خدماتها اللوجستية إلى الحلف في الحروب التي شنتها اسرائيل على العرب طوال سني الحرب الباردة، ناهيك عن الدور الذي لعبته دول عربية وخليجية من هذا القبيل، ان باسم اشكال من التعاون السري أو العلني بصورة مباشرة مع الحلف، وان من خلال احد اعضائه كأمريكا وبريطانيا خصوصا التي تكبل كل منهما بعض تلك الدول باتفاقيات تعاون عسكري ثنائي من ضمنها إنشاء قواعد عسكرية حتى لو تعارض ذلك مع سياداتها الوطنية.
على ان الحلف واجه تحديا حقيقيا في حجم قوته العسكرية في ظل ولاية الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول المعروف بنزعته الاستقلالية عن الدول الغربية الكبرى وعلى الاخص الولايات المتحدة وذلك حينما اعلن هذا الرئيس قراراً بالانسحاب العسكري من الحلف عام 1966م، وقام باخلاء جميع القواعد العسكرية في بلاده من القوات الاطلسية، بما في ذلك القيادة العسكرية للناتو (الاطلسي)، وذلك كتعبير عن التمسك بأولوية سيادة بلاده على جميع أراضيها، هذا فضلا عما نشأ من تضارب بين فرنسا وسياسات الحلف الاطلسي في القضايا الدولية الملتهبة حينذاك.. وكان هذا الانسحاب يشكل مكسبا كبيرا ليس للاتحاد السوفييتي السابق فحسب بل للعرب عامة وعلى الاخص قوى وحركات التحرر الوطني العربية وعلى رأسها الحركة الوطنية الفلسطينية الفتية، ولاسيما ان هذا الانسحاب قد جاء قبل عام واحد فقط من العدوان الاسرائيلي عام 1967م على العرب.
ومع انه يفترض ان يحل هذا الحلف العسكري الغربي نفسه بعد انتهاء الحرب الباردة على اثر انهيار الاتحاد السوفييتي اسوة ببادرة حلف “وارسو” الشرقي بحل نفسه عشية انهيار المنظومة الاشتراكية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن ساسة الدول الكبرى الغربية الاعضاء في الحلف، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ظلوا متمسكين بتأدية مهامه السياسية – العسكرية على الساحة الدولية بما يخدم مصالحهم واستراتيجياتهم العسكرية الكونية، مع اجراء بعض التغييرات والتكييفات المناسبة لاكساب هذا الحلف دورا جديدا يتلاءم مع مرحلة انتهاء الخطر الشيوعي بزوال الاتحاد السوفييتي في حين ظل الجوهر العدواني أو المناقض للمصالح الوطنية والعسكرية لبلدان العالم الثالث هو هو لم يتبدل.
وكانت الفزاعة الجديدة التي استعان بها الحلف بدلا من الفزاعة الشيوعية السابقة هي مكافحة “الارهاب” والتعاون في مجال الامن وتحقيق الاستقرار في البلدان والمناطق التي تواجه هذا الخطر، سواء ازاء قوى وجماعات غير نظامية، كالقاعدة، أو إزاء دول تهدد جيرانها واستقرار مناطقها كإيران وكوريا الشمالية والعراق في ظل النظام السابق، وإلى ذلك فقد حقق “الناتو” مكاسب عملية على الارض لم يكن يحلم بتحقيقها خلال مرحلة الحرب الباردة، ومن ذلك ضم عدد من دول العالم في صفوفه من بينها، ويا للمفارقات التاريخية، دول في حلف وارسو الشرقي السابق المعادي للحلف.
أكثر من ذلك فقد تمكن الحلف من ان يمد مظلته الامنية والدفاعية الى دول غير منضوية فيه من خلال اتفاقيات التعاون المشترك الثنائية، ومن بينها للأسف دول عربية، كما أضحى بعض هذه الدول ومن ضمنها دول خليجية لا تجد أي حرج أو خجل من الاعلان عن اشكال التعاون العسكري مع “الناتو” والتفاخر به بعدما كان ذلك في عصر الحرب الباردة من المحرمات التي تتجنب الدول الحليفة للدول الغربية الكبرى الاعلان عنها في ظل ما هو معروف من وقوف صريح للحلف إلى جانب اسرائيل ضد العرب. وهكذا وجدنا دولا عربية لا تتورع عن الاعلان عن اجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الناتو، أو لا تجد هي أو بعضها الآخر حرجا من احتضان ندوات سياسية امنية وعسكرية يدعى إليها كبار الاكاديميين والساسة والمتخصصين الامنيين والعسكريين لمناقشة افاق تطوير التعاون السياسي والامني والعسكري معها مجتمعة، إذا ما كانت تمثل مجموعة اقليمية واحدة متجانسة، أو مع كل منها على حدة، ويجري ذلك حتى لو كان الحلف مازال يتعاون مع اسرائيل ومازال يقف ضد دول ليس من مصلحة الدول العربية مواجهتها عسكريا كإيران وكوريا والصين وغيرها. ناهيك عن مخططاته العسكرية الجديدة ضد روسيا صديقة العرب.
ومن المؤسف ان كل تلك النجاحات الاختراقية التي يحققها “الناتو” في المنطقة العربية تجرى في ظل صمت شبه تام من قبل قوى وحركات المعارضة الوطنية والديمقراطية والإسلامية في المنطقة العربية وكأنما هذا التطور الخطير المتصاعد لا يعنيها من قريب او بعيد، ولعل آخر انجاز مهم يحققه هذا الحلف العسكري الغربي المشبوه في ظل انحسار حركة التحرر الوطني العربية، ناهيك عن حركة “عدم الانحياز” التي باتت تحتضر، إعلان الرئيس الفرنسي اليميني عن عودة بلاده إلى العضوية الكاملة للحلف بعد ان ظلت خارجه عسكريا طوال 43 عاما، تعاقب خلالها على رئاسة فرنسا قادة من انتماءات حزبية يسارية ويمينية معتدلة.. ويظل السؤال قائما: هل ستظل قوى وحركات المعارضة العربية تلوذ بالصمت مستنكفة حتى عن الكلام كأضعف الايمان؟!
صحيفة اخبار الخليج
22 مارس 2009