كان الأب مفتش التعليم والمثقف هو الذي وفر لها التميز، لكنها كانت تحس تجاهه بشكلٍ غريب؛ (كأنما أبي يكره قامتي المرفوعة أو البريق في عيني المتعجل الانطلاق خارج البيت)، (أوراقي ، حياتي، ج1، مكتبة مدبولي)، فهي تحس هنا بكون أبيها يمثل عائقاً أمام حريتها.
لكنه دعمها بالعلم ووقف معها، وهو كغيره جعله المجتمع الأبوي يفضل الذكور، ويريد أن يكون ابنه البكر هو البارز، لكن البنت (نوال) هي التي صعدت وبرزت، بل صارت مكان هذا الأب وتحملت مسئولية الأسرة.
ناوأت الذكورية المتسيدة حتى الداعمين لها من بينها، وأحبت من عائلتها النساء الرافضات للخنوع، القريبات من الذكورة الطاغية.
جانبان من شخصيتها متضادان، جانب ديمقراطي تناضل فيه مع بقية الناس للتغيير، فيتحد الرجال والنساء في عمل مشترك، وجانب دكتاتوري في شخصيتها، تريد داخله أن تكون هي الذكر المسيطر.
جانب عقلاني فيه هدوء وتبصر ونضال صبور، وجانب غير عقلاني، عاطفي حاد، تقفز فيه على الظروف والأوضاع الموضوعية، وتريد هدم ما تكرس خلال الآلاف من السنين، حتى لو كان ما تكرس أدياناً ورموزاً وعلاقات متجذرة.
ما وصل إليه الذكور في الحركات السياسية من قيادة ونضال مسلح، تريد اختراقه والاتحاد به، فتتطوع في خلايا عسكرية وتقاتل بشجاعة ولكن بلا نجاح وبلا صعود إلى القيادة البارزة.
الأديان لديها كأنها تآمر ذكوري وليست نتاج عشرات الآلاف من السنين؛(الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم)، (ج 2، ص 14).
لم تكن الأديان نتاج تآمر أو رغبة حكام، كانت تكوينات فكرية منذ فجر التاريخ، وفكرة اليوم الآخر ظهرت لدى الفقراء الذين حرموا من كل شيء وليست اختراعاً فرعونياً.
ومن هنا تصبح الأديان في وعي نوال السعداوي مؤامرات الرجال، وليست ثورات في زمنها سيطرت عليها قوى الاستغلال وكيفتها حسب مصالحها بعد ذلك.
ومن هنا كانت نوال ضحية الأنظمة الشمولية وهي تصادر سنوات من حياتها وترميها في السجن، وضحية التنظيمات الدينية المتشددة التي ترى كتاباتها الشاتمة لرموزها المقدسة.
مناضلة عنيدة طوال عقود من أجل تحرر النساء والشعوب، وكارهة لتراثها الذي هو في رأيها سجن لهؤلاء النساء وهذه الشعوب.
عاشت حياة التضاد بين الريف الفقير الذي ينتمي له أبوها وجدتها وجدها، الذين لهم جذور حبشية، وبين أمها التي تنتمي للفئة المتوسطة المدنية البيضاء ذات الجذور التركية.
تقول عن العامة (عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة).
رغم حضور الأب المحول لحياتها، وهو الأمر الثقافي الذكوري الذي أسسها، تظل مع الأم، التي لم تكن لها مواقف أو تأثير إيجابي محول فيها، لأن الأم ذهبت ضحية الولادات المستمرة والأمراض، فظلت في أعماقها بأنها هي الأصل.
(يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق. مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح)، ص 110، ج.2
وتقول أيضاً؛ (إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء)، والمنيسي أحد المقاتلين على جبهة القناة.
هنا في هذه التعبيرات تتحول إلى درويشة وتلغي ما تقوله عن المادية والعقلانية.
تنتمي للثقافة التي صنعها الذكور وتكرهها وتكرههم.
تتذبذب بين موقف نسائي ديمقرطي وموقف نسوي شمولي رافض للذكورة الإيجابية.
تعالج رموز الأديان بعقلانية لحظة ثم تقذفها في أسفل سافلين بعد فقرة أخرى.
تعتبر كل ما يكتبه الأدباء الرجال ضد النساء غير مميزةٍ بين روائي رومانسي وروائي واقعي، روائي يطمس عذابات النساء وآخر يجسدها بعمق وحرارة.
لا شك ان الأوضاع الريفية الرهيبة التي عاشتها، من الفقر وختان النساء وتزويجهن بالقوة واستخدام الضرب العنيف ضدهن، كلها شكلت لها هذه الخلفية:
(في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف)، ص 116، ج.2
عاشت مناضلة وطبيبة وسط الريف وكعادتها توحدت بنماذجها المحطمة كمسعودة التي كانت تعيش كابوساً أسرياً بسبب سيطرة زوجها وممارساته الجنسية المرضية، فتحول لها كل ذلك إلى تصور ممسوس تظن فيه أن الشيطان يلاحقها.
لكن نوال اتهمت الشرع بشكل عام بأنه وراء الدفاع عن هؤلاء الأزواج المجرمين، بدلاً من أن تدرس الحالة وتحيلها إلى قضية شرعية ضد الزوج.
وهذا يجعل الكاتبة تتحول إلى موقف عنيف:
(تحصنت بالطب لأبقي مسعودة بعيداً عن زوجها. القانون أقوى من الطب، يستند إلى شرع الله، اصبحتُ كمن تصارع الله والشرع)، ص 145، ج.2
كان من الممكن هنا أن تفضح ممارسات الزوج وتدينه، فموقفه ضد الشرع. لكن المؤلفة في لحظة الحرقة تنتقل من حدث صغير إلى حكم عام هائل، سلبي، يدفعها إلى ذلك الموقف الحاد المتسرع الكامن في ذاتها مع نقيضه العقلاني، وهذا ينتقل في حالات أخرى إلى سب الرموز، والتراث، فتشكل عداوات أخرى وتفتح معارك جديدة بلا قيمة.
لقد أعطت نوال السعداوي الكثير من الكتابات والأبحاث الهامة وناضلت بقوة من أجل تحرير النساء والمجتمعات من غياب المساواة.
صحيفة اخبار الخليج
22 مارس 2009