يستفزنا الأخ سعيد الحمد أن نشعل ذاكرتنا بخشب الصنوبر في ليل جبلي بارد , وفي مدفأة تجعل تلك الغابة الشاسعة المظلمة من الذاكرة أكثر وهجا. هكذا كلما جلست في فراغ الوحدة استعيد حياة مليئة بحكايات خصبة ربما لا يفهم ولا يدرك رائحتها إلا جيل عاصر ذلك الزمن , ولكننا لا نحرم أو نقلل من مخيلة الجيل الشاب بالدخول إلى تلك الغابة الباردة ويلتقط أخشابه لكي يتدفأ من حطب لم يجف عن برودته ورطوبته . ما زلت اقلب كل حكاية وأسجل عنوانها , وكلما اجلس إلى مكتبي وافتح اللاب توب أرى إن الوقت لم يأتِ بعد للشروع في تلك التجربة الطفولية والمراهقة والشباب الشيطاني , والدخول في غمرة الحياة الصعبة والعبور نحو البحر المجهول . كلها تجارب ليست بعيدة عن جيلنا وقد تبادلنا نكاتها وضحكنا من القلب لها وفككنا دلالاتها الشعبية , وفي غمضة عين لامس ذلك الوهج الجميل دفء الشتاء . لم تكن الفصول تمنعنا عن المغامرة مهما كانت الموانع , مثلما لم تكن فتيات ذلك الوقت يقبلن بأن يسجن خلف جدران البيت , فقد تسللن بطرقهن , مثلما صارت ضلفة الباب والنافذة والسطح مخارج للتعبير والتراسل العاطفي وعشق الكلمات المخبأة في الورق , فكم كان للكلمة الواحدة معنى وكم كان للسطر اليتيم حياة كبيرة. كل فتيات الزمن الأول عندما كان العريش أو الحضار عبورًا للضوء وللهمس , عشن النساء مشغولات في ثرثرة الحوش , والأمهات يصرخن على بناتهن وهن يلامسن بهمسهن إذن الحبيب , وحالما يخرجن النساء من ذلك البيت يبدأن في الهمس على جارتهن , فصخت البنت كله يالسه عند الحضار وكل يوم واحد , صافه لنا مصبنة الفريج , هكذا تتم الشائعات ولعبة الحديث الذي كانت تسلية النساء , ولكن فطوم بنت الأكابر ببيت وجدار مطوق من الطين في ذلك السطح البارد , وثقوب يمر منها الهواء لعل صيفنا يجعل من نومهن رغيدًا وناعماً , بأحلام الصبايا اللاتي لتوهن نضج عنقودهن وقد نعت الحي فطوم باسم سري , عنز السطوح , لكونها كانت طوال الوقت تعيش هناك تبصبص على طابور الصبية والشباب , وقد كان يفرحها أن تقذف بوريقة صغيرة كتبت عليها مفردات الأغنيات , وكان كل واحد يتلقى من فتاة السطوح ورقته , ومفرداته , ولم يحاول يومها كل شخص إن يقول للآخر إنها تحبني , أنا أيها المغفل , فقد كانت ملعونة وشيطانة وذكية كبنية غادرت وقتها المدرسي المبكر , فلم يكن لدى عائلاتها إلا إخراجها من المدرسة وتزويجها بسرعة وترحيلها لدول الخليج المجاور , فمرة فضحتنا , جملة صارت أمام الناس وباتت عادية , ويا ليت الفضيحة كانت بحجم حكاية قيس وليلى . أنها مجرد شقاوة ذلك العمر وعذرية الكلام وبراءته , فكم كانت في ذلك الزمن والعمر تفرحنا مجرد مفردات بريئة , ظلت فطوم نكهة الحي , فكم كان كل واحد منا يتمنى أن تحبه تلك الشمس الدافئة في أيام شتائية عرفتها البحرين , دفء بلا هواء الشمال البارد ولا أمطار غزيرة تغرق بيوتنا, حيث يخرج الناس إلى البر البعيد !! إذ يتداخل شتاؤنا بربيعنا فلا نجد فواصل للأيام والأسابيع . هكذا يداهمنا موسم الحب والغناء والغزل , فبإمكان, عنز السطوح , التمتع بخيالها وأوراقها , فقد قررت أن تختار شخصا آخر , وكعادتها تضع اللازمة المعهودة , لا تخبر أحدا ولا تصدق أحدا فكلهم سيقولون عني إني أحبهم . فأنت معبودي الأول. آه من هاتيك الكلمة , معبودي الأول !! حتى وان كنا لا نعرف ما معنى المعبد ولأننا كنا نرددها كالعميان فقد ظللنا نشعر أنها كلمة رومانسية يوم ذاك , تلهب نارها قلوبنا المتعطشة . صارت عنز السطوح حكاية الجميع وحبًا وحلمًا للجميع , مثلما ظلت وريقاتها الجميلة انتظار لم يأتِ . من أين جاءت مفردة عنزة السطوح ؟ فجيلنا الجديد المحاط بفيلل مسورة وبيوت تحيطها جدران مرتفعة , لن يدرك ان في ذلك الزمن كانت بيوت كثيرة بحظائرها وعنزاتها , وحوشها الكبير , وإذا ما خرجت تلك الأغنام من حظائرها ولم تجد الباب مفتوحا تصاب بخيبة الأنثى , فكم كانت طرقات الحي عشقهن وان لم يخرجن تلك العنزات , فان السلالم المؤدية للسطح تصبح ملاذهن الدائم , حيث تمتعها تلك الحرية الصغيرة بالتجوال فلا نسمع إلا صوت اضلافها التي طالت , كأنها فطوم السجينة في تلك الدار , والتي وجدت في السطح حديقتها والوريقات المتطايرة من فوق رقصتها الصبيانية , فكم تقافزنا لعل الورقة , السرية لأحدنا , فمن منا يوم ذاك لم يحب عنز السطوح التي سمعنا من أمهاتنا عن جمالها وعن أمنيات كل رجال الحي ( الفريج ) بالزواج منها , ويا من حظي وفاز بذاك القمر , فإنها ساعة المباركة , جمال ودلال وحسب ونسب . في تلك الجمل الشاعرية تتحفنا الأمهات بقصصهن عن الأحلام والأمنيات عن هاتيك البنية . عند تلك السفرة وقت الغداء والعشاء تتكرر الحكاية وبأن فلان تقدم لخطبتها ولكن العائلة لم توافق , وبأن سبب الرفض تم التكتم عليه , ولكن صديقات أمها المقربات استطعن معرفة سر الرفض , «يا حسره , على ماله ونسبه بس قصير ويمشي يضولع «, ويبدأن في خلق المزيد عما سمعن وتتناثر أشلاء القصة فوق فضاء البيوت كالدخان , فنفرح لكونها لن تتزوج , ونعيش بذلك الحلم العاطفي الخفي. لم تعرف كل أم تسرد الحكاية إن ابنها الصامت , السكيتي , هو من تلقى ورقة تاريخ مشنقته فهو معبودها الأول !
صحيفة الايام
22 مارس 2009