تتداخل الرأسماليات الحكومية الشرقية مع أساليب الإنتاج السابقة عليها، وبعضها يقوم بالقطع مع تلك الأساليب كما حصل في التجربة الروسية والتجربة الصينية، وبعضها لا يقوم بالقطع وتتداخل أساليب الإنتاج، كما حدث ويحدث في التجارب العربية.
ورغم التداخل والتباين فإن للرأسماليات الحكومية الشرقية ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة النشوء، والثانية مرحلة التطور والاتساع، ثم مرحلة الأزمة.
مرحلة النشوء هي مرحلة البحث عن مصادر التمويل، وبناء الأسس الاقتصادية الأولى للمؤسسات الحكومية الجامعة بين المهمات السياسية والمهمات الاقتصادية، والحصول على تراكمات نقدية تشغل المؤسسات الاقتصادية، وتجمع بين مهمات عامة كبناء الجسور ومحطات الطاقة وإنشاء التعليم ومؤسساته أو تطويرها إذا كانت موجودة، إضافة إلى مهماتٍ تدخلُ في صلب البناء الاقتصادي كإنشاء المصانع.
إن اقتصاديات ما قبل الرأسمالية لها أثرٌ كبيرٌ في نشوء الرأسمالية الحكومية فهي تعبرُ عن وجودِ أو عدم وجود امتيازاتٍ للطبقةِ الحاكمة القائدة للنظام الاجتماعي المعني، وهو أمرٌ يحددُ مداخيلـَها وطرائقَ تدخلِها في إنشاء ونمو الرأسمالية الحكومية وتأثير ذلك في مستقبلها، ويحدد مدى حراك الرأسمالية الحكومية في تملك واستثمار الأراضي والمناجم وتحديد الأجور وتوزيع الأرباح وخلق التراكم الاقتصادي الخ.
إن ذلك سوف يحدد المرحلتين اللاحقتين وهما مرحلتا التوسع والأزمة.
إن الخيارات السياسية للنظام تمثل المحرك الأول، فهي القراراتُ التي تحرك توجه الأموال، ومن هنا تلعب القواعد الاقتصادية دورها في استعمال رؤوس الأموال وتوجيهها.
فلم تكن قرارات الملك البريطاني ضرب الكنيسة البابوية في القرن السادس عشر، وتشجيع نمو الرأسمالية الخاصة بقوة، تجري من دون زمني نهضة وتصنيع سابقين، أي كان لابد من فترة تراكم أولي تفصل المنتجين الصغار من فلاحين وحرفيين عن أدوات إنتاجهم، وتجعلهم يتحولون إلى عمال بأجرة متدنية، ويتراكمون في المدن، وتكون أدوات الإنتاج قد تحولت إلى الصناعة اليدوية فالآلية.
إن فترة التراكم الأولي تجمع بين تكدس ثروة من جهة وفقد العمال أدواتهم من جهة أخرى، كذلك كان تطور أساليب الإنتاج عموماً في الغرب من دون سيطرات واسعة من قبل الدول، فأعطى ذلك نموا للرأسمالية الخاصة.
في حين ان العمال يواجهون في الشرق رب عمل كبير هو الدولة، وقد لعبت انهيارات أنظمة الإنتاج ما قبل الرأسمالية دورها في تحضير العمال الفقراء المتكدسين في المدن، فتقوم الدولة باستخدامهم في مؤسساتها الشاملة.
وفي حين كانت الدولة الروسية تجمع بين يديها المصانع فإنها حررت الفلاحين من الاستغلال الإقطاعي العتيق، فأحدثت تطورات كبيرة رأسمالية في الأرياف، وأوجدت عمالة كبيرة لمشروعات التطوير الصناعية، فلم توجد هناك عوائق كبيرة تعرقل نمو الرأسمالية الحكومية التي راحت تمد سيطرتها على كل الاقتصاد بالتدريج.
في حين ان دولاً أخرى شكلت الرأسمالية الحكومية بجوار أساليب ما قبل الرأسمالية، كوجود أرياف متخلفة لم يحدث فيها إصلاح زراعي، وبقاء النساء في البيوت من دون تحولهن للصناعة، وتخلف التعليم، وهذا مما يعرقل بشكل كبير مستقبل هذه الرأسمالية الحكومية بتضييقه السوق وبإحداث قيود وكوابح على رأس المال بشكليه الحكومي والخاص.
هنا تغدو سيطرات الإقطاع مؤثرة في نمو الرأسمالية الحكومية ولجم انطلاقها.
في حين ان الرأسماليتين الحكوميتين الروسية والصينية ألغتا هذه القيود، وبوجود سوق هائلة فيهما، انطلقت قوى الإنتاج في مدى هذه الرأسمالية الكبيرة.
وهو أمرٌ كذلك يتعلق بالفوائض فوجود بقايا كبيرة لعلاقات الإنتاج السابقة يجعل تلك الفوائض غير كاملة وغير مركزة في التوجه للمشروعات التنموية.
لكن من جهة أخرى فإن السيطرة الحكومية الشاملة على وسائل الإنتاج، تقود كذلك إلى تدمير بعض هذه القوى، ولا تخلق منافسات ضرورية بين الملكيتين العامة الحكومية والملكيات الخاصة (سواء على المستوى السلعي الداخلي أو الخارجي) وهو أمرٌ يتجلى في تردي أنواع السلع المنتجة على المدى الطويل.
إن نشوء وتوسع هذه الرأسمالية يعتمدان على الموارد الطبيعية، والدول الآسيوية الكبيرة كروسيا والصين والهند واليابان لديها مثل هذه الموارد، والأهم حضور العمال بكثافة، وتقود عمليات إنشاء طرق المواصلات العصرية وشبكات الطاقة العامة الهائلة إلى جعل تلك المواد الأولية في متناول التصنيع.
وتوجهت روسيا والصين (والأخيرة أثناء حكم ماو تسي تونغ) إلى التركيز في الصناعات الثقيلة، فشكلت قواعدها ثم توقف ذلك بعد قيامها أو قيام أسسها الرئيسية. هنا تستنفد الرأسمالية الحكومية دورها المطلق، فهذه الصناعات الثقيلة هي الرافعة الهائلة للنهوض الصناعي الكبير وللنهضة القومية، وبعد ذلك فإن توسع الصناعات الخفيفة المرافقة الثانوية، يغدو أمراً بسيطاً.
وقد استغلت المواد الخام المتنوعة وقوى العمل الرخيصة، ولكن إنشاء الصناعات الخفيفة يتطلب شروطاً أخرى غير متوفرة في هيمنة الرأسمالية الحكومية المطلقة.
في اليابان كان نوعا الملكيتين عاملا مهما لتناسقهما معاً، وفي الصين تمت إزاحة رؤية ماو المتحكمة في التطور الاقتصادي، ونشأ القطاع الخاص بتوسع وركز في الصناعات الاستهلاكية، وفي روسيا حدثت إعادة البناء وظهر القطاع الخاص عبر عملية انفجار سياسية.
أخبار الخليج 18 مارس 2009
مراحل تطور الرأسمالية الحكومية (2
))
كانت عملية التطور الرأسمالي اليابانية نموذجية لدول آسيا والعالم المتخلف عموماً، بسبب تناغم تطور الرأسماليتين الحكومية والخاصة، وتعاضدهما لتكوين الصناعات المختلفة، في حين مثلت روسيا نموذج النزاع الكبير بين هاتين الملكيتين.
ووجود الملكيتين الحكومية والخاصة يتيح مستوى من العلاقات الديمقراطية بين هذين الشكلين من التملك، وكلاهما تملك رأسمالي، لكن الأول يتسم بسيطرة السياسة، وبغياب الديمقراطية، وهيمنة القوى البيروقراطية التي قد تنفذ منها قوى ما قبل الرأسمالية أو قوى الرأسمالية الخاصة الحكومية الفاسدة.
إن الملكيتين تعبران عن قوى الفئات الوسطى المختلفة التي توصلت إلى ملكية وسائل الإنتاج، وفي حين ان الأولى توصلت لتلك الملكية من خلال سيطرتها السياسية عبر حزب أو جماعة متنفذة، فإن الثانية نمت رأسمالها من خلال نشاطها الخاص.
وإذا كانت الرأسمالية الحكومية مطلقة فإنها تفرضُ السوقَ الذي تريده، وتحددُ أثمانَ السلع بأشكال بين الموضوعية والتعسف، ولا يحدث نمو نوعي للسلع، وهذا الأمر يظهر بصورة قوية مع الانتقال للصناعات الاستهلاكية، ومع عدم وجود وسائل للرقابة المستقلة، وغياب الصحافة الحرة، فإن قوى الإنتاج تصاب بالتآكل ثم التوقف عن التطور والنمو.
كما أن التسربات المالية وأشكال الفساد البيروقراطية كلها لا تـُراقب ولا تـُنقد ولاتصحح، وهو ما رأيناه في التجربة الحكومية الروسية وما يستمر في التجربتين الإيرانية والسورية، لكن التجربة الصينية انتقلت لنشوء الرأسمالية الخاصة بشكل غير صاعق، وبشكل حثيث، متنوع، مما أدى إلى إغناء الخريطة الوطنية الرأسمالية ككل، استفادة من التجربة اليابانية، بعد أن استفادت من التجربة الروسية في مرحلة سابقة، من دون أن يعني هذا زوال الفساد.
إن الملكية العامة والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هما شكلان للتملك القانوني للملكية، ولنوعين من علاقات الإنتاج الواحدة، وفي حين إن الأولى تتم باسم الشعب والوطن، فإن الثانية تتم بأسماء أشخاص أو مجموعات بعينها.
إن علاقات الإنتاج الرأسمالية تظهر هنا عبر الصورة الأولى بشكل غير مباشر، ومع انقطاع العلاقة بين الجمهور العامل والملكية العامة التي سُجلت باسمهم وباسم الناس والوطن، تتوجه الملكية بشكل حقيقي لتكون ملكاً للقوى الإدارية الكبرى، إما بوضع اليد وإما بالبيع مستقبلاً في حالة الخصخصة أو في حالة الثورة المضادة برفع الحراسات والمصادرة أو في حالة الأفلاس الحكومي أو الفساد.
هنا يتضح المضمونُ الرأسمالي الخاص للملكية الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يستمرُ في بعض جوانبهِ سياسياً، فلا يمكن بيع جميع قطاعات الملكية العامة ذات التاريخ الاقتصادي العام، إما لصعوبة ذلك، كأن تكون هذه الملكيات نشأت فوق مصادر ثروة عامة هامة للبلد، كآبار النفط أو المناجم، وإما تكون مرافق عامة حيوية كالسكك الحديدية ومحطات الطاقة.
ومن هنا تظهر جماعاتٌ حكومية ترفض البيع الكلي لكونها تتعيشُ منها، ويواصل الحزبُ الحاكم أو الأسرة الحاكمة استغلالَ هذه المصادر العامة حسب كل مجتمع وظروفه وعلاقاته السياسية.
إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تنمو وتتصحح بالعلاقة بالسوق، وتتوجه لما عجزت عنه الملكية الحكومية أي بالتوجه للسلع الاستهلاكية، فتقوم بتطوير قوى الإنتاج، فتحدث صراعات أقل وتعاون بين الملكيتين العامة والخاصة.
لا تستطيع دول الشرق بهيمنة الملكية العامة الرأسمالية أن تكون ديمقراطية مهما تحدثت ورفعت من شعارات، ولهذا فإن تبادل السلطة والتعددية الحقيقية لا تجري إلا بخفوت هذه الملكية العامة بكل الأشكال الاقتصادية والسياسية الممكنة، وتحول الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج المصدر الأكبر للثروة، فلا يمكن لمن هو مسيطر على وسائل الإنتاج أن يعطي السلطة لغيره.
ومن هنا شهدنا سلطات البيروقراطيات الحاكمة في الأغلبية الساحقة من هذه الدول، ولم تصبح اليابان والهند دولتين ديمقراطيتين استثنائيتين إلا حين لم تعد الدول هي المسيطرة على وسائل الإنتاج.
ومن هنا كذلك فإن الديمقراطية بعيدة عن الدول الأخرى، وستظل الدول المهيمنة هي التي تحدد المسارات السياسية، إلى أن تتغير الملكيات العامة، أو تصيب مصادر الثروة الحكومية انتكاسات كبرى، أو تظهر مصادر ثروة هائلة لدى الرساميل الخاصة.
كما أن الانتقال للرأسمالية الحديثة أي للديمقراطية يتطلب ثقافة سياسية متقدمة لدى قيادات القطاعات الخاصة، فهماً لتطور الحياة وحلولاً لبعض مشكلاتها المحورية بحيث تغدو قيادات القطاعات الخاصة قادرة على التصدي لمشكلات السياسة الوطنية والعالمية.
إن هذا يحدث حين نرى مؤشرات الأزمة في الرأسمالية الحكومية: تفكك الملكيات العامة، وفسادها، وعجز الميزانيات المتفاقم، تصاعد دور البنوك والرساميل الخاصة في تسليفها وإنقاذها، وهي كلها مؤشرات على انطفاء دورها المحوري.
لا يعني ذلك عدم أهمية الخطوات المقاربة للديمقراطية في هذه الدول، فهي بمثابة الاستعدادات الاقتصادية والسياسية في وراثة دور محوري مطلق كان للدول، وصار لغيرها.
لكن عملية التحول النوعية تعود للتحول في الملكيات الخاصة وقدرتها على تصعيد الإنتاج وتنويعه وخلق فرص عمل وغيرها من المهمات الكبيرة.
أخبار الخليج 19 مارس 2009