لم يكن ثمة تلازم ميكانيكي بين ظهور الفئات الوسطى الأوروبية وظهور الديمقراطية، فالديمقراطية من تعددية حزبية وبرلمانات ونقابات لا تظهر دفعة واحدة وراء ظهور الفئات الوسطى، فمع وجود الشروط الموضوعية من ظهور صناعة وتجارة وصحافة لكن الأمر يحتاج كذلك إلى قوى سياسية وفكرية فاعلة في إنتاج الأفكار الديمقراطية ونشرها وجعلها بؤراً للحراك السياسي.
ويجري الخلط بين الطبقات الوسطى في الغرب والفئات الوسطى في الشرق، ويتم تداول نفس المقاييس عليهما.
فهناك باحثون يستغربون لماذا لم تنتج تجربة الصين الشعبية العملاقة في التجارة والصناعة طبقة وسطى متحركة من أجل الديمقراطية؟
ويقارنونها باليابان التي انتجت مثل تلك القوى الفاعلة من أجل الديمقراطية؟
(إن الطبقة الوسطى الصينية، بما فيها تلك التي تنشط في قطاع الصناعات التصديرية، وهي عادة الشريحة التي تملك أقوى المصلحة في اقتصاد السوق الحر والسياسات الليبرالية – لا تقدم شيئاً يُذكر تجاه تحويل النظام السياسي ديمقراطياً)، (ثائر كريم، ما تأثير الرأسمالية والطبقة الوسطى في إنجاح الديمقراطية في العراق، الحوار المتمدن).
وتقارن التجارب الديمقراطية بتشوشٍ بين البلدان، فنفسُ الكاتب يتساءل؛ لماذا الهند فيها ديمقراطية على الرغم من فقرها الشديد والصين تغيبُ عنها الديمقراطية وهي غنية؟
إن نشوء الفئات الوسطى وتطورها في أوروبا لتكون طبقات وسطى أمرٌ مختلفٌ عن تشكل الفئات الوسطى في الشرق وبدايات تحولها الراهن لتكون طبقات وسطى، فأوروبا لم تكنْ فيها دولٌ شمولية احتكرتْ الصناعة أو جوانب أساسية منها، بل تنامت الصناعة الخاصة مع الثقافات وتشابكت معها في عمليات التغيير.
(إن النظام الياباني اتسم بالتعددية والحزبية السياسية واستند على دستور ديمقراطي متين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى)، إن هذا صحيحٌ ولكن هذا هو الوضعُ السياسي المستندُ على نمو صناعاتٍ خاصة كبيرة، في حين ان الصناعة الصينية ارتكزت على الدولة وأجهزتها البيروقراطية.
وحين سمحت الحكومية الصينية بنشوء الأعمال الاقتصادية الخاصة من كان يملكُ رؤوسَ الأموال؟!
أليسوا هم الموظفين الكبار الذين تراكمت رواتبهم واختلاساتهم من الأموال العامة؟ وهؤلاء يخشون الديمقراطية حين كانوا داخل أجهزة الدولة وحين صاروا خارجها!
رأيتُ شركة كبرى عالمية للتقنيات الحديثة في بكين يملكها جنرالٌ صيني متقاعد!
في الدول ذات الأجهزة الحكومية القديمة والتي تدخلُ العمليات الاقتصادية الحديثة تدخلُها بتراثِها الشمولي الشرقي، سواءً على مستوى الدين أم على مستوى الوعي السياسي.
وكلما ازدادتْ هذه الأجهزة الحكومية تدخلاً في العمليات الاقتصادية فارقتْ الديمقراطية ورحلتْ عنها بعيداً!
والفارقُ كبيرٌ بين الهند والصين، فالهندُ لم يتشكلْ فيها جهازُ حكومةٍ واسع النطاق ومتجمد طوال التاريخ كالصين والبلدان العربية والإسلامية، وحين استقلت قادها حزبُ المؤتمر الديمقراطي، الذي لم ينشئ دولة تمتلكُ كلَ شيء، واعطى الشرائح الوسطى حريات كثيرة، إضافة إلى تاريخها التعددي الديني الواسع النطاق.
في الدول التي تقلص جهازُ الدولة المالك الأوحد للخيرات تنامت الأفكار التحررية والتعددية، وثمة فرق رهيب بين الهند وباكستان التي انشقت عنها وزعم قادتها بأنهم ينشئون دولة إسلامية، بل كانوا ينشئون دولة دكتاتورية وكانوا مرعوبين من الديمقراطية!
وهذا يؤدي كذلك على المستوى الدول المالكة للقيم والصناعة إلى ضعف الفئات الوسطى الليبرالية واليسارية، ويغدو نشوء أحزابها القومية والبعثية والشيوعية والطائفية ارتكازاً على مثل هذه الدول المالكة للخيرات العامة، والمصادرة للتنوعين الاقتصادي، والثقافي، فلا تستطيع أن تدفع في التوجهات الديمقراطية.
بل تقود أفكارها لنمو الدكتاتوريات، فالشرائح الحقيقية للفئات الوسطى التي تمتلك الثروات الخاصة التي أنتجتها بصعوبة في ظل أنظمة الاستبداد الحكومية تخشى منها، ولا تريد أن تنشىء أنظمة متدخلة في الاقتصاد، ولهذا تظل الحركات السياسية في الفراغ السياسي معتمدة على العاطلين واليائسين الاجتماعيين والإرهابيين.
ولهذا فإن الأفكار الليبرالية التي تنتجها الفئات الوسطى هي أفكار خجولة شاحبة، غامضة، خائفة ليس فيها جرأة في الدفاع عن النظام الرأسمالي الحر، فهي تواجه حكومات شمولية وأحزاباً شمولية، فتضيع ملامحها الفكرية قبل أن يتبلور أي مشروع سياسي لها، فتبلور المشروع السياسي يعني الضياع بين القوى الكبيرة وأجهزة الدول المتحكمة، وهي قد عاشت في ظلالها (الطيبة)!
تحتاج عمليات تشخيص نمو الديمقراطية في الدول والمجتمعات المختلفة إلى قراءة تواريخها وتطوراتها الاقتصادية، وخاصة الترابط بين الصناعات والحريات والثقافة، فدول الغرب لها تاريخها المختلف، ودول الشرق لها تواريخها المختلفة، وثمة دول التماثل الشمولية المتشابهة، ودول الاستثناءات كالهند واليابان وغيرهما من القليل النادر، وحتى هذه لها مراحل.
ودور التأثيرات السياسية والفكرية على المسارات الموضوعية لهذه الدول في معرفتها أولا، ثم في تغييرها.
أخبار الخليج 17 مارس 2009