أن تطالب جهات متضررة بأن يجري رفع الحصانة عن النواب، فهذا أمر مقبول، لأن من نافلة القول أن بعضاً من النواب لا يملكون زمام ألسنتهم في فورات الغضب، وبعضهم من أجل إرضاء قواعده الانتخابية وضماناً للترشيح والانتخاب في المرات المقبلة يقوم بتعلية ‘التون’ قليلاً من أجل إظهار كمّ من الشجاعة والمحاججة في مصالح الناس. ومنهم أيضاً من يجوز عليه الخطأ والوقوع في بعض المخالفات من أنواع متعددة، إذ ينسى لبعض الوقت أنه ممثل عن الشعب فينزلق، أو ينزلق لأنه ممثل عن الشعب وليس ملاكاً لا يخطئ.
ولكن أن يبدأ النواب في طلب رفع الحصانات عن بعضهم البعض؛ فإن هذا أشبه ما يكون بكشف عورة العملية الديمقراطية في شكل التصيّد المَرَضي فيما بينهم، وتعبئة الملفات السود لحين الحاجة، فإن بدأ أحدهم تلاه الآخرون، وإن عدتم عدنا، وبالتالي فمن الأفضل أن يسكت الكل عن الكل، أو يفتح كلٌّ على كل أبواب جهنم.
يتهم النواب الشيعة (والله ليندى الجبين خجلاً من هكذا تقسيمات)، زميلهم جاسم السعيدي بالمساس والتعريض بالطائفة وتقدموا بطلب رفع الحصانة عنه لتقديمه إلى القضاء ليقول فيه كلمته الفصل، بينما يقول النائب السعيدي إنه انتقد مواقف وتصرفات ولم يسئ لطائفة أخرى (أية طائفة هي المقصودة يا ترى؟). فما هي إلا أيام معدودات حتى جرى تقديم طلب رفع حصانة من قبل نواب من الكتل السنية للنائب جاسم حسين لما قاله في الكونجرس الأميركي، وقناة ‘العالم’ الإيرانية، فقلنا: حسنٌ، جاسم بجاسم، وإن كانت المسألة واضحة المعالم، وأنها لا تعدو رد فعل على التصرف الأول. ولكن تواردت أيضاً من الأنباء التي نشرتها الصحف ما يفيد بأن النائب جواد فيروز قد يدخل القفص نفسه، ويذوق من الكأس ذاتها التي أرادت كتلته أن تذيقها للنائب المستقل.
ليس لي – ولا لغيري حالياً – الحكم بصحة ما تقدمت به الطلبات السابقة لرفع الحصانات عن النواب، ومن النواب أنفسهم، وكأني بالمثل الكويتي الذي بات برنامجاً فكاهياً فيما بعد ‘حيلهم بينهم’ يتحقق في هذا المجلس، وكأن هناك جهة ما، أيادٍ ما، ثقافة ما، إرادة ما، توجهاً ما، كلها معاً تود أن ينشغل المجلس ببعضه بعضاً، وتترسخ مسألة الانشطار العمودي الحادث حالياً، حيث يقف كل طرف معرقلاً أي مقترح يتقدم به الطرف الآخر حتى لا يسجل أحد نقاطاً، ولا الوطن نفسه يسجل أي شيء، ويكفر الجميع بالعمل الديمقراطي وسنامه البرلماني ما دامت هذه التصرفات تردُ من بطن البرلمان الذي يفترض فيه أن يكون سادن الديمقراطية ومرسّخها الأهم، لتراه هو – في جانب محدد – من يعمل على شلها وتنفير الناس منها، حتى ليتحسّروا على الأموال التي تنفق لقاء ديمقراطية شوهاء لا يجنون من ورائها ما يطمحون.. كأن هناك من يود ألا تتحرك مفاعيل المجلس إلى الأمام، وإنما تتحرك في اتجاه أفقي بين الأعضاء أنفسهم وبين رئاستهم ومجلسهم ومكاتبهم، حتى ينفصلون عن من انتخبهم.
لقد صارت الهموم التي ترد من المجلس لا تعدو توحيد زي المعلمين والمعلمات وفصل الجنسين في أي مكان يختلطون فيه، وهم يعلمون علم اليقين أن هذه المقترحات سوف لن يجري تطبيقها، وأنها ستجلب عليهم السخط من الشارع.
في عصور الانحطاط العلمي والثقافي التي حلت بالأمة الإسلامية بعدما كانت تنتج العلوم بغزارة، صاروا يلجأون إلى أمهات الكتب ويكتبون شروحاً لها، وشروحاً للشروح، وهوامش على الهوامش، وذلك من الإفلاس الفكري الذي عانت منه الأمة، ولا تزال.. أتمنى ألا يبدأ برلماننا مفلساً وهو لم يتم عامه العاشر بعد.
الوقت 16 مارس 2009