قبل أيام قليلة كتببت هنا مقالا تحت عنوان “السياسة الخارجية خلال 30 عاما” استعرضت خلاله التطور البطيء، الذي تمر به السياسية الخارجية في المواقف والممارسة الدبلوماسية منذ انتصار الثورة الايرانية قبل ثلاثة عقود خلت والتي تتسم في الغالب إن صح القول بـ “المراهقة الثورية” طبقا للايديولوجية الدينية السياسية الشيعية التي تنتهجها إيران إلى جوار عالم عربي سني المذهب بغالبيته العظمى، ومعظم دوله تجنح للاعتدال والوسطية في صنع وممارسة سياساتها الخارجية، لا بل ان بعض هذه الدول متهمة بالافراط في “الاعتدال” الى حد التفريط بالسيادة والكرامة الوطنيتين على حساب مصالحها الوطنية والقومية.
وكان العنوان الذي اخترته للمقال المذكور في المسودة الأصلية “إيران و30 عاما من العزلة” لكن وتخفيفا لوقع صيت العنوان على مسامع المتيمين بعشق جنة “الجمهورية” اخترت العنوان المنشور في اللحظة الأخيرة قبل إرسالي المقال للجريدة. وبيّنت في هذا المقال نفسه كيف ان الحكمة والمرونة والنضج في ممارسة السياسة الخارجية تكاد تكون الاستثناء في تاريخ هذه السياسة، حيث هذا الاستثناء يكاد لم يتحقق، للأسف، سوى خلال ولايتي الرئيس السابق السيد محمد خاتمي، وإلى حد ما خلال ولايتي الرئيس الاسبق هاشمي رفسنجاني، وعلى الأخص ولايته الثانية. وختمت المقال بأن تمنيت على المرشد الأعلى الحالي للثورة السيد علي خامنئي بصفته صاحب القرارات العليا التي لا تخضع للسلطات الثلاث بأن يستفيد ومعاونوه من التجربة المريرة التي مرت بها الجمهورية في عهد ولاية الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد والتي وصفتها في المقال بأنها الأسوأ في تاريخ الجمهورية داخليا وخارجيا منذ انتصار الثورة عام .1979
لكن ازاء هذه العزلة التي أوقعت إيران نفسها فيها في الغالب الاعم من اشكاليات المواقف والقضايا السياسية الخارجية المتعددة، سواء المحقة إيران فيها أو غير المحقة فيها، هل يصح لجيران إيران في الخليج العربي والعالم العربي عامة ان يتركوا إيران وحدها تتخبط فيها ومواجهة ممارساتها الانعزالية أو التي تقودها إلى الانعزال بتشديد العزل والحصار عليها من قبلهم؟
فمنذ العدوان الصهيوني الوحشي البربري الأخير على أهالي غزة المدنيين يكاد موضوع إيران واحد من البنود المثبتة على جدول اعمال كل الفعاليات الخارجية والدبلوماسية العربية، سواء الخليجية منها ام التي على الصعيد العربي عامة. وكان لمواقف إيران الكلامية المتشددة خلال عدوان غزة بالمزايدة على العرب بالكلام فقط، ثم ادعاء مسؤولين نافذين بتبعية البحرين لها، وصولا إلى قطع الرباط علاقتها بطهران على خلفية تداعيات أزمة تلك التصريحات، فضلا عن سوابق من القضايا الاشكالية الاخرى المتأزمة بين البلدين.. كل ذلك كان له دوره في فتور أو توتر علاقات إيران بدرجات متفاوتة ليس مع معظم دول الجوار الخليجي فحسب، بل مع عدد من الدول العربية وعلى رأسها مصر، ناهيك عن ان موضوع ايران كان حاضرا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بالاسم، أو بالإيماء في مداولات القمة المصغّرة الاخيرة في الرياض.
لعل شهادتي مجروحة خليجيا كوني بحرينيا، بالرغم من انني اصنف نفسي كاتبا مستقلا أقرب إلى المعارضة الدستورية المعتدلة، لو قلت ان الدبلوماسية البحرينية اتسم موقفها بالحنكة والاعتدال خلال الأزمة، عندما اتاحت الفرصة لطهران للتعاون معها لاغلاق ملف ادعاءات رموز نافذة فيها بتبعية البحرين لإيران نهائيا، ومن ثم إعادة مياه العلاقات إلى مجاريها الطبيعية دونما ان تغلق المنامة باب التراجع والاعتذار امام طهران غلقا محكما أو تفتح جبهة معها حملات اعلامية رسمية بلا نهاية بما يضر مصالح الشعبين. هذا بالرغم من وجود قوى خليجية وعربية لم تكن راضية عن وضع حد لتلك الأزمة في الظروف الملتهبة الراهنة التي تمر بها علاقاتها مع ايران.
وما نحتاج إليه خليجيا وعربيا بالضبط هو الاحتذاء بالممارسة الدبلوماسية المحنكة للسياسة الخارجية البحرينية، رغم ان البحرين من أكثر الدول العربية الخليجية التي تضررت من المراهقة الصبيانية القومية الشوفينية التي صدرت عن رموز دينية نافذة إيرانية، ورغم مآخذنا أيضا على بعض أوجه اداء الدبلوماسية البحرينية في مواجهة تلك الممارسات في حينها. وبالتالي فمن غير المعقول الابقاء على سياسة التشدد على الدوام في الوقت الذي ترسل فيه الادارة الامريكية الجديدة البعيدة عن منطقتنا بآلاف الكيلومترات اشارات حذرة لإبداء المرونة والحوار تجاه طهران، وكان آخرها تأكيد مدير مخابراتها دنيس بلير عدم امتلاك ايران اليورانيوم العالي التخصيب بعدما أثارت هذه المخابرات ذاتها فزع دول الجوار على مدى سنوات بقرب امتلاكها السلاح النووي لتبرير شفط مئات المليارات من دول الخليج لترويج اسلحتها الكاسدة. هذا ناهيك عما أعلنه البرادعي مؤخرا من دعوة للدول العربية إلى التدخل في حوار الملف النووي بين إيران والغرب.
لذا فلئن كان اتخاذ المواقف الخليجية والعربية السريعة والحازمة تجاه شطط السياسات الخارجية الايرانية، كمواقفها تجاه الجزر الاماراتية الثلاث والادعاء بتبعية ايران أمرا مطلوبا فان ذلك لا يعني البتة مواجهة المواقف والسياسات الانعزالية التي تمارسها طهران بتشديد العزلة عليها في مطلق الاحوال كرد فعل من جانبنا، بل الاستمرار ببذل أقصى الجهود الممكنة لابقاء اليد ممدودة ومساعدة طهران بشتى السبل على فهم مضار تلك السياسات الانعزالية عليها وعلى المنطقة، عبر سياسة تجمع بين الحزم والمرونة، بما في ذلك مساعدتها على التخلص بأي قدر ممكن من عزلتها. فسياسات العزل والتشدد المتبادل لا تفضي إلا إلى المزيد من توتير الاجواء وتسميم العلاقات بينها وبين دول الجوار والتي لربما انتهت، لا سمح الله، إلى مواجهة عسكرية في المنطقة الخليجية برمتها في ظل ميزان قوى لصالح إيران ولن تنفعنا خلالها نجدة متهورة من قبل القوى الكبرى المتربصة بالمنطقة والتي مازالت تمخر أساطيلها مياه الخليج.
أخبار الخليج 16 مارس 2009