سيظل يوم السابع عشر من شهر فبراير يوما خالدا في ضمير المناضلين قاطبة.. ماثلا في عقول الشعوب كافة.. حيا في ذاكرة الوطن، وصفحات التاريخ.. محفورا في صخرة الزمن وفي أغوار الأجيال المتعاقبة.. مضيئا في أعالي سماء المجد والحرية.. بحسب ما يظل هذا اليوم يمثل شهادة تاريخية تدين أصحاب الأيادي المجرمة المخضبة بالدماء والخارجة عقولهم عن التاريخ وعن مفاهيم الحضارة الإنسانية والبعيدة سلوكيا عن القيم الإنسانية والأخلاقية..
هو يوم استشهاد المناضل المفكر الفيلسوف الماركسي اللبناني العربي (حسين مروه) على أيادي تيار الإسلام السياسي الظلامي.. حينما تسلل أحد هذا التيار المتشدد الى منزله، كالخفاش وكاللص، تحت جنح الظلام فاقدا ضميره وفاقدا رجولته، فيطلق تلك الرصاصة الغادرة المنطلقة بيد قذرة ضغطت على الزناد، لتصيب حسين مروة في مقتل.. لتخسر الإنسانية والبشرية رائدا من روادها وعظيما من عظمائها وعبقريا من عباقرتها.
ويظل بالمقابل أولئك القتلة أحياء طلقاء، بحياة رخيصة بالغة التفاهة والابتذال في بيعهم الذمم والضمائر والأوطان.. لم يمثلوا سوى أعباء على المجتمعات والشعوب.. بل يظل وجودهم يمثل وصمة عار على جبين الأنظمة العربية الدكتاتورية.
سقط حسين مروة في 17 فبراير 1987م شهيدا للفكرة.. وشهيدا للمبدأ.. وشهيدا للوطن.. ومثلما ودع مروة، شعبه ووطنه مكرما ومعززا.. فان قامته ظلت شامخة، تقزمت أمامها أقزام قوى التخلف والتعجرف والتشدد.. بقدر ما تمثل نتاجاته الفلسفية وإبداعاته الفكرية القبس الذي تسترشد من ضيائه الشعوب والأمم والبشرية جمعاء.. ولكون مكانة هذا الفيلسوف قد ارتقت بمستوى مكانة فلاسفة عصر النهضة وعصر التنوير وعصر الثورة الصناعية وعصر الثورة الاشتراكية، وفي مقدمتهم كارل ماركس وأنجلز وهيجل وديكارت وكانط وروسو وفولتير وفيورباخ ولينين.
وطالما حسين مروة عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، هو أحد كبار الماركسيين الحقيقيين العرب، الذي قل ما يجود الزمان به في الزمن الصعب، وذلك في ربط مهماته الفكرية كفيلسوف بالمهمات النضالية كمناضل، وارتباط نهجه الفكري بالمنهج المبدئي ارتباطا عضويا وجديا.. ولكون نتاجاته الفلسفية والأدبية قد غيرت وجه العالم العربي.. مثلما غيرت أصول الفلسفة الماركسية وجه العالم بدلا من تفسيره بحسب الفلسفات المثالية والميتافيزيقية.
لعل ما يبعث على الفخر قولا ان الفيلسوف حسين مروة قد أبدع في مجالات الفكر والأدب والثقافة والفلسفة والتراث كما أسلفنا القول.. فهو من مؤسسي فن المقالة ومن مؤسسي النقد الأدبي الماركسي.. وهو المتبحر في عملية البحث والتحليل، والعبقري في التنقيب للتراث العربي فلسفيا وأدبيا وفكريا وتاريخيا.. وتأتي مجلداته المهمة والقيمة “النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي” لتتوج حقائق ومفاهيم “المدرسة الماركسية الحقيقية” التي تخرج فيها كبار الأدباء والمفكرين والمناضلين الملتزمين.
تمر الذكرى الثانية والعشرون على استشهاد المفكر حسين مروة، فيزداد أوارها إضاءة وضياء، مع رسوخ أفكار ومبادئ الأحزاب الشيوعية العربية في أرضية الواقع المجتمعي المعاش (جغرافيا وتاريخيا وجماهيريا).. وفي مقدمة هذه الأحزاب.. الحزب الشيوعي السوداني الذي تألق بـ (فلسفته الأيديولوجية وببرنامجه السياسي) نحو التمسك بالماركسية ضمن خط بياني تصاعدي مبني على أصول الفلسفة الماركسية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر هو حينما اغتيل المناضل (حسين مروة) وغيره من المناضلين التقدميين لدى مختلف أقطار الوطن العربي على أيادي تيار الإسلام السياسي.. فان خطاب الأنظمة العربية القطرية الاستبدادية يعد الشريك المحوري في أجندة خطاب تيار الإسلام السياسي.. طالما الكثير من أصحاب الرأي والضمير ومن المناضلين والرموز الوطنية يزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات.. و”ياما (كم )العديد في هذه السجون مظاليم”.. وكم البعض منهم في هذه المعتقلات أبرياء.. وكم استشهد من هؤلاء.. وكم لحقت بأولئك عاهات مستديمة نتيجة طائلات أبشع التعذيب في حقهم.. وكم البعض الآخر اختطفتهم مافيا أجهزة المخابرات السرية، ولم يوجد لهم أثر على الإطلاق.. ناهيك عن إعطاء هذه الحكومات الدكتاتورية الضوء الأخضر لقوى تيار الإسلام السياسي، لإطلاق فتاواها التكفيرية ووصاياها التشهيرية، وممارستها (دعوى الحسبة) مثلما حدث للمفكر (نصر حامد أبوزيد) بدعوى الحسبة في حقه، حينما أحلت الجماعات الإسلامية المتشددة دمه.. وكذلك المفكر مهدي عامل والأديب نجيب محفوظ والمفكر فرج فودة إذ أنزل سيف تسلط الإسلام السياسي على رقابهم وإهدار دمائهم.
وفي هذا الصدد فان المفكر (نصر حامد أبوزيد) قد وضع النقاط فوق الحروف بقولته التي أوردها في مؤلفه القيم (نقد الخطاب الديني) والقائلة “ان الخطاب الديني يمثل الغطاء الأيديولوجي للأنظمة الدكتاتورية الرجعية وتكريس أشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلفا”.. ومن هذا المنطلق فان قوى تيار الاسلام السياسي قد تمادت في جرائمها عبر التصفيات الجسدية لقوى التحرر والتقدم من الماركسيين والشيوعيين والتقدميين، ومن ضمن هذه الكوكبة الشريفة من المناضلين والمفكرين، (حسين مروة) شهيدا من شهداء الحرية والإنسانية.. وحسبما ينحني مناضلو الأحزاب الشيوعية والأحزاب التقدمية على طول الساحة العربية إجلالا للذكرى الثانية والعشرين لاستشهاده.. فان رحيل (حسين مروة) هذا الفيلسوف المميز بأفكاره الماركسية – هذا الإنسان العظيم بتضحياته الرائعة، يمثل وسام شرف على صدور المناضلين وطالبي الحرية على وجه البسيطة.
أخبار الخليج 13 مارس 2009