يُنسب إلى بطل العالم السابق في الشطرنج كاسباروف قوله: إن النقلات التي نصنعها في أذهاننا أثناء اللعب، ثم نصرف النظر عنها تشكل جزءاً أصيلاً في اللعبة، تماماً كتلك التي ننجزها على رقعة الشطرنج. ولو جال المرء بناظريه لاكتشف أنه كذات، وأن الكثير من الناس حواليه ليسوا فقط حصيلة المشاريع التي أنجزوها وتلك النقلات التي أقدموا عليها فوق رقعة الحياة، وإنما هم أيضاً حصيلة تلك الأشياء التي لم ينجزوها، حصيلة المشاريع الخائبة والمشاريع المؤجلة والمشاريع المخبأة. يقال إن لدى الصينيين تقليداً طريفاً يتمثل في اختيار اسم جديد لكل شخص في آخر حياته، غالباً ما يقوم الشخص نفسه باختياره على خلاف اسمه الأول الذي يمنحه إياه والداه أو أجداده. فكرة هذا الاختيار تكمن في أن الإنسان وقد خبر الحياة أصبح بإمكانه أن يختار الاسم الذي يؤمئ للصفات التي اكتشفها في ذاته أو الخبرات التي اكتسبها والمعارف التي تعلمها والميول التي أدرك أنه منجذب إليها أكثر من سواها، كأن الاسم الجديد يهيئه لحياة جديدة منتظرة، يكون فيها الإنسان مستعداً لمواجهتها بصورة أفضل متعلماً من حياته السابقة. وأهم ما في هذه الفكرة الطريفة أنها تعطي الإنسان الفرد وحده حرية اختيار الاسم الذي يناسبه، فهو أعرف بنفسه، بعالمه الداخلي، بالمعلن والمخفي هو ذاك الذي يشبه نقلات الشطرنج الذهنية التي يتحدث عنها «كاسباروف» واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الخطوات التي يجري تنفيذها على رقعة اللعب، والتي قد تكون حيناً أشبه بمقدمات في التفكير السابق للفعل، يُقصيها المرء عندما تنضج في ذهنه هذه الفكرة التي يظن أنها ملائمة. كانت بطلة الطاهر بن جلون في رواية «ليلة القدر»، وقد صارت عجوزاً، بلغ بها العمر أرذله تشعر بأنها مثقلة، وهي أدركت أن ذلك لا يعود إلى وطأة السنين، وإنما إلى وطأة كل ما لم يُقل، كل ما كتمته واخفت على مدار عمرها المديد. كانت تقول: «لا أعلم بأن ذاكرة مملوءة بأنواع الصمت وبالنظرات المتقطعة يمكن أن تصير كيساً من الرمل». وهي يومذاك تكلمت. أدلت بكلمات شهادة على الزمن، على الحياة الصعبة التي انقضت. لكن الفكرة المضمرة في النفس والمستقرة في الذهن قد لا تجد طريقها للعلن أبداً، فما أكثر الناس الذين دفنت أسرارهم معهم، مثل هذه المرأة يوجد الكثير من الناس الذين يثقلهم ما هو مسكوت عنه، الذين تثقلهم النقلات الذهنية التي يمور بها الدماغ، ليكتشفوا فيما بعد أن هذه «النقلات الذهنية» هي ما صنع سيمياء شخصياتهم أكثر مما صنعته النقلات التي نفذوها على رقعة الحياة. ثمة بيت من الشعر لشاعر أجنبي يقول: «امش في الهواء.. مخالفاً لما تعتقده صحيحاً»». هذه دعوة غريبة، ولكنها تلفت أنظارنا إلى حقيقة أنه ما أكثر الناس الذين يمشون مختارين أو مكرهين، عكس ما يعتقدونه صحيحاً، تاركين الصحيح يمور في الذهن وحده.
صحيفة الايام
12 مارس 2009