المنشور

مقومات المواطنة ومعوقاتها


 المواطنة حسب تعريف الدكتور طارق البشري المفكر الإسلامي القانــــوني فـي مصر ” هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية معينة تكون قد قامت على أساسها الدولة…. وأن الدولة بموجب حاكميتها للجماعة السياسية وإدارتها لشؤونها العامة تكون ذات سطوة عليها، وبهذا الأداء يظهر في المقابل وصف المواطنة”
 
 


ورقة جمعية العمل الوطني الديمقراطي
 
مقومات المواطنة ومعوقاتها 
 
قدمها / الأستاذ عبد الله جناحي
نائب رئيس اللجنة المركزية بجمعية (وعد)

مؤتمر “المواطنة وتكافؤ الفرص”

الذي عقد يوم السبت 21 فبراير 2009 في فندق الدبلومات


 



 

تمهيد:

المواطنة حسب تعريف الدكتور طارق البشري المفكر الإسلامي القانــــوني فـي مصر ” هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية معينة تكون قد قامت على أساسها الدولة…. وأن الدولة بموجب حاكميتها للجماعة السياسية وإدارتها لشؤونها العامة تكون ذات سطوة عليها، وبهذا الأداء يظهر في المقابل وصف المواطنة” ويضيف ” في الفكر السياسي القديم كان الطرف الآخر في العلاقة مع الدولة هم الرعية، ثم تطورت العلاقة النظرية بين الدولة الحاكمة والمحكومين إلى ضرورة أن يكون المحكومين مشاركين في الحكم بأسلوب تنظيمي ما – مثل الانتخابات ووجود الرقابة المتعددة وتداول السلطة- فصار المحكوم الطرف الآخر في العلاقة مع الدولة الحاكمة هو المواطن، وظهر مفهوم المواطنة وصفا يشير إلى المحكوم المشارك في الحكم”.

ومن هنا يتعين القول أن وصف المواطنة باعتباره وصفا يتعلق بالطرف الآخر في العلاقة مع الدولة، هذا الوصف يتعين أن يصدق على كل من تشملهم الدولة بحاكميتها ويخضعون لولايتها وينطبق بالتالي عليهم وصف المواطنة. ( طارق البشري).

كما تقر الدساتير الغربية بان المواطن الفرد هو الوحدة الأساسية للمجتمع حيث يكون مفهوم المواطنة علاقة تعاقدية بين الدولة والمواطن، ويشير طارق البشري بأن في معظم الدول العربية يوجد نظريا مفهوم المواطنة باعتبارها مجموعة من العلاقات التعاقدية القائمة بين (الفرد) والدولة، إلا أن هذا المفهوم كثيرا ما تحجبه فكرة الشخص المرتبط بعلاقات عشائرية أو طائفية.

إن هذه الورقة ستكشف أن مفهوم المواطنة ما زال ضعيفا في البحرين وأن فكرة الرعية ما زالت هي السائدة في معظم علاقات الدولة بالمواطنين.

كما تتبنى هذه الورقة رؤية المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري في مجال الهوية الثقافية التي قسمها إلى الدوائر الثلاث التالية:


الدائرة الأولى: تتمثل بالفرد ككائن له احتياجاته وعليه الضغوطات التي تجبره إلى الانعزال أو الاحتجاج أو الرفض والتطرف.
الدائرة الثانية: تتمثل في الجماعة أكانت قبلية أو طائفية أو أثنية أو غيرها من الجماعات التي يلتجأ اليها الفرد أمام غياب البدائل الأخرى كملاذ وحماية وحصانة، وهي الدائرة التي تتكون فيها لاشعورا جمعيا سياسيا واجتماعيا وقيميا تصبح له قوة مادية مؤثرة.
والدائرة الأخيرة: هي الوطنية أو الأمة والتي تحتضن الدائرتين السابقتين، وكلما كانت هذه الدائرة تمتلك مقومات الجذب من حيث توفير مباديء وطنية وحقوقية كلما كانت الدائرة الثانية في حالة تراجع على حساب الدائرة الوطنية ولصالحها.
 
الدوائر المتقدم ذكرها- وبالأخص الدائرتين الثانية والثالثة- هي في حالة من التضخم أو الانكماش حيث ينتقل الفرد أو الجماعة ولاءً وموقفاً وذلك بتوفير أو غياب عناصر رئيسية ثلاثة هي بحد ذاتها محددات الدوائر أو منشطات لها وهي على النحو التالي:


مبدأ المواطنة: فكلما توفرت سياسات ومواقف وتشريعات عملية وحقيقية تنبذ التمييز بين المواطنين على أسس طائفية أو قبلية أو أثنية أو غيرها وتحقق المساواة بينهم وتجسد دولة القانون والمؤسسات على الجميع ، كلما ضعفت دائرة الجماعة القبلية والطائفية والأثنية في الهوية الثقافية وقويت وتضخمت الدائرة الوطنية الكبرى وأصبح الفرد منتميا ومرتبطا بهذه الدائرة ومبتعدا أو مقللا من الاعتماد والانتماء للدائرة الثانية.


مبدأ المشاركة السياسية: في صنع واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكلما توسعت هذه المشاركة وأصبحت حقيقية وليست ترقيعية وتحققت العدالة في توزيع الدوائر الانتخابية وأصبحت السلطة التشريعية مستقلة وقوية وقادرة على أن تعبر عن رأي ومصالح الناس، كلما أيضا ضعفت الولاءات الطائفية والقبلية والأثنية إذا ما رأت هذه الولاءات بانها قادرة على أن تكون لها تمثيلها في المجالس الانتخابية التشريعية والبلدية، وبالتالي قويت الدائرة الوطنية وتراجعت تاثيرات الدائرة الثانية.


مبدأ التوزيع العادل للثروة (الاقتصاد الريعي ): فمن المعروف أن الاقتصاد الريعي يخلق قيما وسلوكا وممارسة تتعارض ومع التوزيع العادل للثروة، وبالتالي فكلما تم توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل ومنصف على عموم الشعب والمناطق من حيث التنمية والخدمات والرفاه الاقتصادي والاجتماعي كلما أصبحت الدائرة الوطنية من ضمن الدوائر الأخرى هي القوية والقائدة للمجتمع، وأصبحت الأقليات أو الطوائف أو الهويات الأخرى بمثابة غناء وتنوع ثقافي وفكري وديني تعزز الدائرة الوطنية والقومية.



المتغيرات الاساسية:

من الممكن أن نعطي للمحددات السابقة الثلاثة أسماء أخرى مثل الظروف والسياسات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تنفذها وتمارسها السلطة كأداة تمتلك القوة والعنف والثروة والقرار، فكلما كانت الممارسات الأمنية شديدة القمع وهناك قيود شديدة على الحريات العامة كلما يلتجأ الفرد للدائرة الثانية والعكس صحيح.

وكلما كانت الظروف السياسية انفراجية وديمقراطية وتشاركية كلما انتقل الأفراد من دائرة الجماعة إلى دائرة الوطن والأمة. وكلما كانت السياسات الاقتصادية والتنموية للدولة بعيدة عن المحسوبية والفساد والتمييز في تقديم الخدمات وتضع العدالة بوصلتها كلما أصبحت الدائرة الوطنية أكثر اتساعا وقوة وتأثيرا.

تراجع أو تقوية إحدى الدوائر الثلاث وبالأخص الدائرة الوطنية أو القومية ودائرة الطائفة المغلقة يعتمد بمدى فاعلية وتنفيذ المنشطات الثلاثة التي تم ذكرها وهي: المواطنة والمشاركة والعدالة ، كما يعتمد على مدى غلبة الأولوية الأمنية والقمعية للحريات العامة والفوضى الاقتصادية على أولوية الاستقرار المجتمعي عبر الانفراج والمزيد من الديمقراطية وتعزيز الحريات والتنمية الاقتصادية والبشرية العادلة.

ومن الأهمية التأكيد بأن إهمال مبدأ واحد من المبادئ الثلاثة سوف يؤدي إلى بقاء دائرة الطائفة أو القبيلة قوية و تأثيراتها على الدائرة الوطنية واضحة، حيث أن غياب مبدأ المواطنة وبالتالي استمرار التمييز واللامساواة بين المواطنين حتى في ظل وجود تشاركية سياسية شكلية وترقيعية ومحاولة توزيع الثروة الريعية توزيعا عادلا نسبيا، فإن مبرر الانحياز لدائرة الطائفة سيكون قويا وسيبقى اللاشعور الجمعي حاضرا للطائفة ضد التمييز الذي يمارس بحقها. المعادلة ذاتها لو أن مبدأ المشاركة اختفت أو عدالة التوزيع للثروة الوطنية. ورغم أن قناعتي تنحاز إلى أن أي اختلال في مبدأ من المبادئ الثلاثة يعني أن باقي المبادئ هي في حد ذاتها غير صادقة وغير حقيقية وأنها ترقيعية وشكلية. وعليه فهناك علاقة جدلية وتفاعلية بين المحددات والمتغيرات بعضها مع بعض.

في هذا الشأن من المفيد الإشارة إلى رؤية المفكر الفلسطيني عزمي بشارة الذي يرى بأن النزعة السائدة عند الفئات المسحوقة هي التأكيد على الانتماء إلى الجماعة، أي الهوية الأثنية أو الطائفية أو القبلية وذلك ” كإستراتيجية للحصول على الحقوق، إنها نزعة بنيوية في الدولة التي تملكها جماعة، مثال نزعة السكان الذين يرون أنفسهم كمحرومين وكمنبوذين في الشق الشرقي من ألمانيا بعد الوحدة، واليهود الشرقيين في إسرائيل للتأكيد على التطرف القومي وكإستراتيجية لنيل الحقوق بواسطة تأكيد الهوية المشتركة، فهي أساس توزيع الحقوق في حالة الدولة ملكا لجماعة أثنية” (عزمي بشارة).


فيما يلي من محاور الورقة هي تفصيل وتوضيح لهذه المبادئ الثلاثة.

معوقات تعزيز مبدأ المواطنة:


أولا: قيم الاقتصاد الريعي:

القيم والثقافة المنبثقة عن الاقتصاد الريعي لن تعزز مبدأ المواطنة بل بالعكس تخفيه وتهمله وتتعزز مكانه فكرة الرعية التي على الراعي دائما أن يقدم لها العطايا والمكرمات. ولأهمية هذا المحدد الاقتصادي في إضعاف مبدأ المواطنة من المفيد شرح وتحليل مضمون مفهوم الاقتصاد الريعي وقيمه وإفرازاته الاجتماعية.

السمات العامة للاقتصاد الريعي :

  • الدولة التي تعتمد على الريع الخارجي في معظم إنتاجها القومي هي من الدول التي تسمى بالدولة الريعية وفيها يؤول الريع الخارجي   أو نسبة عالية منه إلى فئة صغيرة أو محدودة تعيد توزيع أو استخدام هذه الثروة الريعية على الغالبية من الســـكان ، وهكذا نجد أن فكرة الدولة الريعية تقتضي التفرقة من ناحية بين الأقلية والأغلبية ، ومن ناحية أخرى بين خلق الثروة وتوزيعها (حازم الببلاوى) ، ولذلك نجد أن الفئة المحدودة من المجتمع تحصل بشكل مباشـر علـــى عناصر الثــــروة ( الريع الخارجي) في حين يقتصر دور الغالبية العظمى من السكان على استخدامات هذه الثروة ، وهذا من شأنه أن ينشأ نشاط اقتصادي تابع يعتمد اعتماداً كبيراً على المصدر الأساسي للثروة .
  • السمة الأخرى الناتجة عن السمة المشار إليها أعلاه ، هي أن الوضع المتميز لدور هذه القلة يؤدي في معظم الأحيان إلى أن تصبح الدولة أو الحكومة هي المستفيد المباشر من هذا الريع الخارجي , فتركيز هذه القوة الاقتصادية في يد عدد محدود لا يلبث أن يؤدي إلى تركيز القوة السياسية فيها في الوقت نفسه .
  • الدولة وبعد أن وضعت تحت تصرفها معظم مصادر الثروة الوطنية أصبحت وظيفتها الأساسية هي توزيع المزايا والمنافع على أفراد المجتمع ، وبذلك أصبح دور الدولة الأساسي مؤسسة لتوزيع المنافع والمكاسب , ذلك أن الدولة الريعية أصبحت مستقلة عن قوة الاقتصاد المحلي ، فهي بالتالي ليست بحاجة إلى صياغة أي شئ يستحق أن يسمى سياسة اقتصادية ، فكل ما تحتاج إليه هو سياسة مصروفات ، وحسب (جياكومو لوشياني) مدير الدراسات في معهد الدراسات الدولية بروما والذي يعطي تسمية (دولة رصد التخصيصات) بديلاً عن الدولة الريعية , يؤكد أن إيرادات الدولة ذاتها هي اكبر أقسام أجمالي الناتج المحلي ، وبالتالي فأن مجرد الأنفاق محلياً سيؤدي إلى نمو معدل هذا الناتج إلى حده الأقصى ، والمشكلة الوحيدة المتعلقة بدولة رصد التخصيصات هي الحصول على أقصي إيراد ممكن من العالم . بيد أن هذه لا علاقة لها إلا قليلاً بالاقتصاد المحلي ، ولأن دولة رصد التخصيصات إنما تنفق فقط ولا تفرض الضرائب ، فأن سياسة مصروفاتها لا يمكن أن تضر أحداُ وإنما هي عادة فكرة نافعة للجميع ، بيد أن منافع هذه المصروفات ليست موزعة بالتساوي ، ولذلك فالفرد الذي يشعر أن منافعه ليست على ما يرام ، عليه أن يناور من أجل الحصول على مغانم شخصية ضمن الوضع القائم (لوشياني) . 
  •  هذا الدور للدولة الريعية عكس نفسه على تشكيل علاقات المجتمع ، بحيث تم ترتيب هذه العلاقات على نحو يسمح للمصالح الخاصة والفئات الاجتماعية المختلفة بالحصول على أكبر قدر من إعادة توزيع الريع , الأمر الذي أدى إلى تعزيز فكرة الراعي والرعية بديلة عن فكرة (المواطنة) المرتبطة بعلاقات الإنتاج حسب ما هي في الدول المدنية الصناعية.
  • لقد ابتعدت الدولة الريعية عن الوظائف الحديثة للدولة ، فالدولة الحديثة يصب جهدها على الوظائف التي تؤديها لمواطنيها أو العمليات التي تنفذها لتحقيق الوظائف التي تلتزم بها أمــام مواطنيها ، وفي كلتا الحالتين تنتفي الحاجة إلى البحث في أصول الأشياء والناس وينصب الجهد على وصف المشاكل القائمة ووضع التشخيص لعلاج هذه المشاكل ، وهكذا تستطيع الدولة الحديثة أن تتحرر  وتحرر شعبها من عقد الماضي وأمراضه وأن تكرس جهدها لمشاكل الواقع المعايش ( محمد جواد رضا ).
  • إذا كان النقد الشديد الذي وجهه الاقتصاديون من أمثال ريكاردو و أدم سميث وكارل ماركس للريع وخاصة الأملاك العقارية ، فلقد مارست الدولة الريعية النفطية ، الخليجية منها على وجه الخصوص ، ذات السياسة ، فلقد باشرت الدولة النفطية الخليجية في توزيع مباشر لجزء من الثروة على الأفراد من خلال توزيع الأراضي عليهم ومن ثم شرائها بأسعار عالية ، مما خلقت هذه السياسة نواة من المصالح العائلية حول الدولة الريعية الجديدة ، ذلك أن استخدام الدولة لأسلوب استملاك الأراضي ، وهو الأسلوب الأساسي لتوزيع جزء من الثروة النفطية على عدد من العائلات الكبيرة والمتوسطة ، قد أدى إلى قيام ثروات خاصة مهمة إلى جانب ثروة الدولة المستندة إلى عائدات النفط ، وهكذا ارتبطت تجارة الأراضي بثروة النفط منذ البداية ، وقد نشطت تجارة الأراضي والمضاربات عليها فيما بعد ، مما أفرز بشكل قوي عقلية ريعية وارتباطها بالأرض ، وهو المجال التقليدي لمفهوم الريع لدى المفكرين الاقتصاديين .
  • من أهم الإفرازات القيمية للدولة الريعية ذلك التداخل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة لدرجة أصبح (الفساد) الناتج عن هذا التداخل مسألة مقبولة بجانب أنها معروفة وغير مستهجنة ، فالدولة وبعد أن انهمرت الثروة النفطية عليها أخذت تقدم الخدمات العامة للمواطنين بشكل منتظم وبمستوى راق جداً في بعض القطاعات وجيد في القطاعات الأخرى التعليمية والصحية وتوفير فرص العمل , وأنشأت شبكة راقية من البنية الأساسية ، وكانت كل هذه الخدمات تقدم مجانا أو برسوم زهيدة ، بيد أن هذه الخدمات استغلت من قبل كبار المسئولين في الدولة لتحقيق منافع خاصة أثناء المناقصات وتنفيذ المشروعات العامة ، حتى أن في كثير من الأحوال أخذت الدولة تتعامل مع إرساء العطاءات والمناقصات كنوع من التعبير عن رضا الحاكم وعطاياه  لهذا التاجر أو تلك العائلة الموالية له ، ولذلك اختلطت المصلحة الخاصة بالخدمة العامة وأصبح التمييز بينهما مسألة غير مسموح بها ، حيث ارتبطت المشروعات الكبرى للتنمية بتحقيق فرص الثراء لبعض شاغلي المراكز العامة .

وإذا كانت هذه الظاهرة غير معممة على جميع المسئولين  العموميين ، إلا أنها تعتبر ظاهرة سائدة في الدولة النفطية الخليجية ، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن معظم الثروات الخاصة لم تتكون بعيداً عن ممارسات السلطة العامة في سياساتها الانفاقية التي كانت مسئولة عن تكوين هذه الثروات .

  • إذا ابتعدنا عن علاقة الثروة الخاصة بالخدمة العامة ، فان القطاع الخاص بمؤسساته الكبيرة وخاصة العائلية منها قد كونت ثرواتها من قيم وقوانين الدولة الريعية التي ساعدت على خلق ظروف تسمح  لهذه المؤسسات باكتساب أنواع متعددة من الريع , فالتجارة لا تعدو أن تكون مناسبة للإفادة من المزايا عبر القانون أو الواقع الذي يخدم ذلك ، فالشركات الأجنبية لم تستطع ممارسة نشاطها إلا من خلال وكلاء محليين ، ومعظم هذه الشركات تحتاج إلى معونة المواطنين لتسيير معاملاتها مع الإدارات والأجهزة الإدارية (الفساد الإداري) , ولقد استفاد من هذا الوضع عدد من العائلات التجارية الكبيرة التي لم تلبث أن كونت تجمعات مالية هامة تباشر توكيلات العديد من الشركات الأجنبية ، ولقد تكونت معظم الثروات الخاصة من خلال الوكالات هذه (حازم الببلاوي) , وحتى المواطن العادي استفاد من هذه القيم الريعية ، فأصبح (كفيلاً) للأجنبي القادم من دول فقيرة ومستعد أن يقتطع جزءا من أجره وأرباحه وتقديمه للكفيل المواطن مقابل أن يستمر وجوده في البلاد شرعياً ، وهكذا أصبحت الجنسية أو المواطنة مصدر الكسب عبر شخصيته ككفيل للأجنبي وبمعنى أدق  ظهرت (طبقة ريعية) من المواطنين يسميها شبل بدران ، أستاذ أصول التربية المساعد بجامعة طنطا بمصر (طبقة الوكلاء) إذ يقوم (الكفيل) بتقديم العطاء القانوني اللازم لمن يود من غير أهل البلد فتح متجر للبقالة أو ورشة ميكانيكية أو محل خياطة …. الخ وكل ما يتحمله الكفيل هو مسئولية قانونية مبهمة تجاه الحكومة والمكفول ، فقد يتحمل مسئولية السلوك العام للذين يكفلهم (سعد الدين إبراهيم) وفي مقابل ذلك يحصل (الكفلاء) على نصيب من الأرباح من كل مشروع يكفلونه ، وبعد انحسار الموجة النفطية ، تحولت تلك العملية إلى عملية تجارية بحته ، بل أن شبل بدران يؤكد وبثقة أنها تحولت إلى تجارة (الرقيق الأبيض) نظراً إلى شروطها اللا إنسانية (شبل بدران).
  • لقد ارتبطت فكرة الريع دائما بظاهرة المضاربة , ذلك أن الريع في بعض مزاياه غير المرتبطة بالجهد والإنتاج سرعان ما يؤدي إلى قيام عقلية المضاربة التي تسعى إلى تحقيق فرص الربح , وقد عرفت دول الخليج النفطية ظاهرة المضاربة بشكل واضح في عقد السبعينات من القرن الماضي ( سوق المناخ في الكويت, شراء الجوازات من المواطنين لزيادة نصيب أسهم الشركات المساهمة التي تحت التأسيس, المضاربات الكبيرة على الأراضي والعقارات). ( حازم الببلاوي ) .
  • ونستطيع في هذا المقام أن نؤكد صحة أطروحة ( كينز ) على المجتمعات النفطية, حيث يرى بان الذين يدخلون عالم الأعمال والمال والاستثمار لا يحملون معهم ” روح المشروع الرأسمالي ” القائم على التنظيم والتجميع لعوامل الإنتاج وتحمل المخاطر طويلة الأجل والمشاركة في دفع عملية التراكم الرأســـمالي المنتج , إذ أن العديد من هؤلاء تحركه ” روح المضاربة ” القائمة على الكسب السريع واستغلال الاختناقات في الأسواق , وفي أحوال كثيرة يدار الاقتصاد الوطني بواسطة حفنة من المضاربين والمغامرين الماليين, وأوضح مثال على ذلك ما حدث في سوق المناخ بالكويت .

الدول الخليجية النموذج الواضح للدولة الريعية :

  1. تعتبر الدول الخليجية النفطية أفضل تجسيدا لفكرة الدولة الريعية، فهذه الدول تعتمد في اقتصادها على تصدير سلعة خام (البترول) ويستند اقتصادها إلى نوع من الريع الخارجي المعتمد على توافر ظروف منجميه مناسبة، وطلب خارجي هائل، وتمثل إيرادات النفط العنصر الغالب على النشاط الاقتصادي، وبمقارنة بسيطة بين عنصر العمل والناتج تتجلى المفارقة، حيث أن إنتاج النفط يمثل ما بين 60 – 80 بالمائة من الناتج المحلي، إلا أن عدد المشتغلين في إنتاج النفط لا يتجاوز 2 – 3 بالمائة من مجموع العاملين.
  2. ويمكن القول بأن جميع السمات القيمية والثقافية وانعكاساتها على الاقتصاد والمجتمع والسياسة في الدولة الريعية والتي أشرنا إليها تتجلى في هذه الدول بشكل كبير، ومما ساهم في تشرب المجتمع الخليجي والجزيرة العربية بهذه القيم وبالموافقة المجتمعية لأن تأخذ الدولة هذا الدور التوزيعي للثروة على حلقات المجتمع هو أن جذورها التاريخية القبلية تحمل ذات السمات الريعية، فالمجتمعات القبلية السابقة على ظهور الدولة الحديثة كانت تعتمد أيضاً في استقطاب  الولاء من القبائل والعشائر على توزيع العطايا والمنح، وجاءت ثروة النفط فأكدت هذا الدور في رداء حديث من دولة الرفاهية التي تقدم للمواطنين المزايا والخدمات، وهكذا اختلط دور الدولة الحديثة في توفير الخدمات العامة في دولة الرفاهية، مع فكرة عطايا الحاكم ومنحه التقليدية للقبائل لكسب ولائها في المجتمعات السابقة (حازم الببلاوي).

لقد كشف الدكتور محمد الرميحي كل ذلك حيث وضح أن المجتمع الاستهلاكي المعتمد على دخل النفط غير المرتبط دخله بالإنتاج، هو الذي يظهر لنا أكثر وضوحاً كلما زادت المداخيل النفطية، والدولة (العشيرة) (الحاكمة) هي مصدر رئيسي لتوزيع هذا الدخل، فانعكس ذلك على صعيد العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية،فمن جهة سمحت مداخيل النفط للدولة ببناء قاعدة تحتية موسعة أتت بمتغيرات أساسية في البني الاجتماعية، ومن جهة أخري أرادت (الدولة) الاحتفاظ بالخيار الآخر في العلاقات السياسية مع القبيلة، وقد تمكنت من ربط المتناقضين معاً والسيطرة عليهما، لأن العنصر المحرك للتشكيل الاجتماعي (المجتمع) ليس الإنتاج، ولكن توزيع عائدة عن طريق (الدولة)، حيث أن الإنتاج النفطي معهود فيه كلياً إلى الأجانب وليس للسكان المحليين إلا نسبة ضئيلة جداً وغير فاعلة في صناعته (محمد الرميحى).



ثانيا: المساواة والاستبداد:

يعتبر مبدأ المساواة والحقوق المتساوية شرط أساس في تعزيز مبدأ المواطنة، والمساواة ” تعني منع التمييز بين الناس حسب الجنس أو العنصر أو لون البشرة أو اللغة الأصلية أو العقيدة …الخ، وتعني أن تنظر الدولة إلى الأفراد المكونين من الشعب بحسبانهم محض أفراد لا يتميز فرد منهم عن الآخرين إلا إذا كانت لديه أوصاف مكتسبة كالتعليم والخبرة والمهارات أو بلوغه سن معينة للتمكن من إجراء أعمال معينة أو تولي مناصب معينة” (البشري- مصدر سابق)

ولذلك فالمواطنة ضمن هذا السياق صفة تشير إلى الفرد الذي له الحق في المشاركة في الحكم وتولي الولايات العامة في الدولة من دون تمييز سببه الانتماءات الجماعية الفرعية كالقبيلة أو الطائفة أو الأصل.

نقيض مبدأ المساواة يتجلى في الاستبداد السياسي في المقام الأول الذي يمثل تقويضا لمبدأ المساواة، حيث لا تقوم حياة اجتماعية وسياسية سليمة بدونه، وحسب الباحث محمد هلال الخليفي عندما ” يستبد فرد أو مجموعة أفراد بالحكم دون بقية أفراد الشعب فإن فعلهم هذا عبارة عن استبعاد الشعب من أن يكون مشاركا في الحكم الذي هو حقه المستمد من مبدأ المساواة” (الخليفي).

وللاستبداد أشكال عدة أخطرها الاستبداد عن طرق القانــون ذاته، أكان مـــن خـــلال أبو القوانين المتمثل بدستور يقلص صلاحيات الشعب في المشاركة السياسية أو القوانين الأخرى المتعلقة بالحريات والحقوق العامــــة، ويـــــرى عصمت سيف الدولــــة بـــأن ” المستبدون اليوم يقهرون الناس ويستبعدونهم استبعاداً قانونياً، تنفيذاً لحكم أصدره قضاة، وتطبيقاً لقانون وضعه مشرعون، في نطاق دستور موضوع” (عصمت سيف الدولة).

إن النظام القانوني الذي يسمح لفرد أو مجموعة من الأفراد أن ينفردوا بإدارة شؤون المجتمع- بأي وسيلة- دون بقية المواطنين هو ” حكم استبدادي ولو جاء هذا الفرد أو الأفراد باستفتاء شعبي” (الخليفي- مصدر سابق).  

   
مقومات ومكونات المجتمع الديمقراطي :

سنضطر في هذا المحور أن نعتمد في وصفنا للمجتمع الديمقراطي على النموذج الأوربي الذي أصبح سائداً كنموذج يعتمد على دولة المؤسسات والقانون، ورغم قناعتنا أن هذا النموذج  ليس إلا حالة من جملة حالات أخرى  وتجارب عديدة، غير أنه على الصعيد المؤسساتي – حالة نموذجية كتب لها أن تتطور بفعل جملة من العوامل التاريخية والاقتصادية والاستعمارية والدينية والفكرية، ليصل إلى دولة المؤسسات المعاصرة التي لم يعرف التاريخ  لها مثيلا من  قبل .

بيد أن المهم جداً أن  نميز – ونحن نتكلم عن دولة المؤسسات والقانون – بين الجذور التاريخية التي أدت إلى نجاح  النموذج الرأسمالي وبين الواقع العربي الشرقي عامة، والتطور الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعات الخليج العربية والجزيرة العربية على وجه الخصوص.
وتكثيفاً لهذا التمييز يمكن القول أن النموذج الرأسمالي يقوم على تقسيم واضح  بين بنيتين، بنيه تحتية اقتصادية تشكل الصناعة عمودها، وبنية فوقية قوامها أجهزة الدولة ومؤسساتها والأيديولوجيات المرتبطة بها،  ومن ثم قيمها وأفكارها وسلوكياتها وممارساتها، أما مجتمعاتنا العربية ونتيجة للعديد من العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية والدينية وكذلك الاستعمارية ودور القوى الخارجية، فضلاً عن الجغرافيا لم تتطور فيها الأوضاع إلى مرحلة من الممكن أن نميز بين البنيتين، بل تداخل عناصر البنية التحتية بالفوقية بصورة كبيرة لدرجة أن العديد من الفعل السياسي والاجتماعي هو من نتاج تأثيرات البنية الفوقية التقليدية، رغم وجود بنيه تحتية اقتصادية حديثة تعتمد على وسائل وطرق النظام الرأسمالي المعاصر.

وبمعني آخر، وحسب تحليل روجيه دوبريية للظاهرة السياسية التي يري بأنها ليس من نتاج وعي الناس، آراؤهم وطموحاتهم، ولا ما يؤسس هذا الوعي نفسه من علاقات اجتماعية ومصالح  طبقية، بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه أسم (اللاشعور السياسي) الذي هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد و الجماعات ضغطاً لا يقاوم. وتطبيقاً لهذا المفهوم على الواقع العربي الإسلامي، فأن علاقات من نوع العلاقات القبلية العشائرية والعلاقات الطائفية والعلاقات المذهبية والحزبية الضيقة التي تستمد قوتها المادية الضاغطة القسرية مما يقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم بفعل تلك العلاقات نفسها من نصرة وتناصر أو فرقة وتنافر. وهذه البنية من العلاقات اللاشعورية تبقى قائمة فاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث في البنية التحتية المقابلة لها. أن هذه العلاقات لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً (محمد عابد الجابري). ولذلك فأن الفعل السياسي في مجتمعاتنا لا يتقيد بآليات محددة وإنما يوظف ما يناسب قضيته ويخدم قناعاته من أحداث التاريخ كحكم السلاطين والخلفاء والأئمة تارة، ومن تجارب الشعوب المعاصرة ومؤسساتها وسياساتها تارة أخرى، ومن التأكيد على خصوصياتها!! ومن ثم تمايز تجربتها وممارساتها تارة ثالثة، الأمر الذي يدعونا إلى أهمية التمييز بين الممارسة السياسية في الغرب الرأسمالي والشرق العربي الإسلامي. فالوعي السياسي في المجتمعات الرأسمالية الغربية يرتبط فعلاً بالانتماء الطبقي, في حين أن المجتمعات الشرقية الذي يسود فيها الانقسام إلى ( جماعات ) تتمايز عن بعضها بالحسب والشرف أو النسب والجاه  والمال أو المذهب والطائفة والقبيلة، جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الاقتصادية، ولكن أيضاً يحركها التعصب القبلي والطائفي، ومن هنا فالناس داخل الجماعات التي من هذا النوع يكونون مشدودين لا إلى مصالحهم الاقتصادية المباشرة بل إلى مرحلة سابقة من ( تاريخ) الجماعة، ولذلك فأن الأيديولوجيا السياسية والاجتماعية التي تعيشها الجماعة في حاضرها ترتبط بواقع آخر مضى, وكثيرا ما يكون أساسها الاجتماعي الذي انبثقت منه يقع في الماضي وليس في الحاضر (محمد عابد الجابري).

وعلى هذه الأرضية من الطبيعي أن يختلف مفهوم المشاركة السياسية والديمقراطية والمواطنة والأقلية و الأغلبية في الثقافات الأوروبية الرأسمالية الطبقية والثقافة العربية الإسلامية, وخاصة التي تعيش في مجتمع ريعي على الصعيد الاقتصادي. ومن هنا فأن الورقة لن تتطرق إلى التفصيل المطلوب لمكونات ومقومات الديمقراطية السائدة في الغرب الرأسمالي وإنما ستركز على مفاهيم محددة, وهي التي تصطدم وتتناقض مع السمات القيمية للاقتصاد الريعي .



الطائفية والقبلية ضدان لتعزيز المواطنة:

 في الحقل السياسي هنالك فرق بين الاعتراف بتعددية ثقافية وتعددية طائفية تقوم على أساس المواطنة المتساوية، وبين تحويل هذه الجماعات إلى جماعات سياسية تحل محل تعدد الأحزاب ومحل تعدد الآراء والبرامج والمشاريع حول مصلحة الأمة ككل، لأن “وجود جماعات سياسية في داخل الدولة لها طابع طائفي أو عائلي أو عشائري يلغى رأي ودور المواطن الفرد المستقل، ويختزل المواطنين إلى أعضاء في جماعات بحيث تشتق حقوقهم من عضويتهم فيها” (عزمي بشارة- مصدر سابق).

ولذلك فان الديمقراطية الحقة لا تعترف إلا بوجود روابط سياسية بين جماعات حقوقية وهي الروابط والاتحادات الطوعية وليست جماعات عضوية مثل الطائفة أو العشيرة، بل ولن تحقق الديمقراطية نجاحاً إلا عندما تسمح بإقامة مثل هذه المنظمات الطوعية التي تقوم على التعاقد بين الأطراف، أما “حقوق الطوائف الجماعية وغيرها من الهويات والانتماءات غير الطوعية فهي تعترف بها كذوات لها حقوق متعلقة بطابعها ولكنها لا تعترف بأنها وحدات سياسية تمارس دوراً سياسياً” (عزمي بشارة- مصدر سابق).

وبالتالي فإن احترام الحقوق الجماعية هذه ممكن طالما أرسيت “أواصر المواطنة (تحتها) كأساس لها وليس (فوقها) كمشتقة منها، لأنه إذا لم ترس الحقوق الجماعية على المواطنة فقد تتحول الجماعات ذات الحقوق السياسية والمتوازنة في نظام توافقي إلى قمع للمواطن الفرد، وإلى إلغاء المواطنة عملياً، والمواطنة هي الوجه الآخر للسيادة، والوجه الآخر للدولة الوطنية، وأفضل تعبير عن مبادئ الشعب هو الديمقراطية، والوجه الآخر لها هو المواطنة المتساوية” (عزمي بشارة – مصدر سابق).

ومن هنا يأتي دور الأحزاب السياسية بضرورة العمل الجاد لخلق الاندماج والإيمان بأن الحقل السياسي لا يحتمل وجود جماعات ترى وحدها تمتلك الحقيقية المطلقة وأن باقي الأطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات بعينها باعتبارها مطلقة وغير قابلة للنقد، وهو ما يعني إضفاء (المقدس) على المجال العام، وهو أمر يعد خطيراً لأن الحقل السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي من المفترض أن تلتقي فيه كل الجماعات وليس مجالاً للقاء المقدسات، وهو جوهر أطروحة فصل الدين عن السياسة.

ويشير في هذا المقام الدكتور سمير مرقص الباحث المصري بأن “الاندماج هو عملية مجتمعية شاملة تحتاج إلى جهد وانفتاح وإعادة القيمة للدولة القومية المؤسسة على المواطنة والاقتصاد الإنتاجي والاستقلال الوطني”.

ولتحقيق وتعزيز المواطنة هناك أدوار للدولة وأدوار أخرى للمجتمع المدني وبالأخص التنظيمات السياسية، حيث للمواطنة بعدان، البعد الأول “هو المواطنة الأفقية ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن التي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار المجتمع المدني وعليه يحدث التكامل بين الجميع بغض النظر عن الاختلاف” (مرقص – مصدر سابق)

وفي هذا الشأن فان احد اكبر التحديات أمام المجتمع المدني بمؤسساته السياسية والحقوقية والاجتماعية والمهنية هو خلق الاندماج في العديد من الأشكال التي تعزز الطائفية والقبلية بديلة عن المواطنة مثل: الصناديق الخيرية والأوقاف والمحاكم، بل والانكى في وضعنا الراهن في المؤسسات التعليمية التي أصبحت تتجه إلى الفرز الطائفي سواء في التعليم الخاص أو في إنشاء معهدين حكوميين دينيين الأول لأبناء الطائفة السنية والآخر لأبناء الطائفة الشيعية، وما يعني ذلك من مخاطر في خلق انفصال بين الأجيال الصاعدة من أبناء هذا الوطن يدرسون ويتعايشون فيما بينهم في مرحلة عمرية هي من أفضل مراحل العمر الذي من المفترض أن تتكون العلاقات الاجتماعية والزمالة فيها فإذا بهذه الجزر المنفصلة تخلق تباعدا بين الطائفتين وبالتالي تضعف من البعد الأفقي لتعزيز المواطنة.

أما البعد الثاني للمواطنة فهو “المواطنة الرأسية التي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطن والدولة من خلال النظام العام والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وعقوبات وأمن” (مرقص – مصدر سابق). وهو البعد الذي تم استعراضه فيما تقدم من هذه الورقة. حيث تتحمل الدولة المسؤولية الأكبر في قدرتها على إدارة التنوع وابتكار سياسات وآليات الدمج الاجتماعي للجماعات والطوائف وذلك بسبب السلطة التي لديها.


مكونات ومقومات المجتمع الديمقراطي :


  • مبدأ المواطنة: وهو المبدأ الذي يمثل حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة ، وهو المدخل إلى إرساء أسس نظام حكم ديمقراطي فيها ، ورغم أن هذا المبدأ قد مر عبر التاريخ  بمحطات تاريخية تطور فيها مفهوم المواطنة ، حتى وصل إلى دلالته المعاصـرة ، التي تتمثل في حق المشاركة في الحياة الاقتصادية والتمتع بثمرتها وحق المشاركة في الحياة الاجتماعية وحق المشاركة في إنجاز القرارات الجماعية وحق  تولي المناصب العامة والمساواة أمام القانون .

إن تاريخ مبدأ المواطنة هو تاريخ سعي الإنسان من أجل الإنصاف والعدل والمساواة ، حيث ناضل الإنسان من أجل أعادة الاعتراف بكيانه وبحقه في الطيبات ومشاركته في اتخاذ القرارات، وقد استجابت الحكومات الملكية التي سادت حقبة الحكومات الزراعية في وادي الرافدين وحضارة سومر وآشور وبابل والصين والهند وفارس والإغريق والرومان وغيرهم لمطالب بعض الفئات التي تعتمد عليها ومنحتها درجة من المساواة أعلى من غيرها من بقية السكان، ولعل الحضارات القديمة والأديان والشرائع التي انبثقت عنـها قد ساهمت في وضع أساس للمساواة أعلى من إرادة الملوك وحكم الإمبراطوريات، لتقيم أسس الإنصاف والعدل والمساواة في الأرض (علي خليفة الكواري).


  • مبدأ المشاركة السياسية : وهو المبدأ الذي كان له الدور البارز في تكوين الدولة الحديثة، وذلك عندما أصبحت علاقة الدولة أو الملك مباشرة مع السكان أو الشعب, وأعد المسرح السياسي لتطبيق فكرة سيادة الشعب تطبيقاً حياً حركياً، وبنشوء الدولة القومية أصبح الشعب يعتبر الدولة دولته ويطالبها مع مرور الزمن بالاعتراف بحقوقـــه، كما كانت حاجة الملوك إلى إيرادات كافية تدفعهم إلى فرض وتحصيل مزيد من الضرائب, الأمر الذي لم يكن يسيرا دون وجود تمثيل لدافعي الضرائب. وساد القول المشهور (لا ضريبة بدون تمثيل) وبرز بالتالي مبدأ التمثيل السياسي (الكواري- مصدر سابق) .

وفي هذا المقام من المفيد أن نعطي للعلاقة بين الديمقراطية والضرائب بعض حقها ، فالتاريخ الاقتصادي لأوروبا يشير إلى وجود حاجة بين جني الضرائب من السكان وفكرة المشاركة السياسية، وحسب المعلومات التي قدمها الدكتور الكواري أن المشاركة السياسية قد تمت في دول الشمال الأوروبي الفقيرة نسبياً مثل الدول الاسكندنافية وبريطانيا بسبب حاجة الملوك إلى الاعتماد على شعوبهم في تحصيل الضرائب وبالتالي تشجيعهم على الإنتاج وزيادة قدرتهم الضريبة من خلال السماح بمزيد من المشاركة السياسية واستتباب الأمن الاجتماعي، هذا بينما تأخرت المشاركة السياسية في دول أوروبا الجنوبية وعلى الأخص أسبانيا والبرتغال بسبب قدرة الملوك على ملء خزائنهم من ذهب المستعمرات في أمريكا (ريع الاستعمار) ومن هنا تأخرت المشاركة السياسية في بقية الدول الغربية الريعية (الكواري- مصدر سابق) .


  • مبدأ حكم القانون: وهو من المبادئ الرئيسية لإرساء أسس الدولة الحديثة وركيزة لتعزيز مبدأ المواطنة المعاصرة، ولقد بدأت الدولة القومية في أوروبا تهتم بإصدار القوانين العامة وأصبحت صحائف الصكوك هي التي تنظم علاقات الرجال السياسية والاقتصادية والاجتماعية, على الأقل بقدر ما ينظمها السيف، وقد كان من نتائج ذلك التنظيم ولادة حكم القانون في دائرة الحضارة الأوروبية الحديثة، حيث أصبحت الامتيازات المدعمة بالصكوك هي القاسم المشترك للمجتمعات الأوروبية، وأصبح بذلك في مقدور الضعيف أن يعيش إلى جانب القوي, ومع التطور القانوني وبفضل تزايد المشاركة السياسية في عصر النهضة والتنوير بمفكريه انتشرت فكرة العقد الاجتماعي والحكم الدستوري وتحويل الدولة إلى مؤسسة منفصلة عن شخص من يحكمها، تتقاسم السلطة فيها سلطات ثلاث تشريعية وتنفيذية وقضائية لا يسمح بالجمع بينهما في يد واحدة، وتنظيم علاقة التعاون بينها وفق شرعية دستورية (الكواري- مصدر سابق).

تلك هي المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الديمقراطية، وهي مبادئ كانت مفقودة أو غير مؤصلة في الفكر العربي التقليدي، فما بالك في المجتمعات التي ترتكز بنيتها الاقتصادية على هبات الطبيعة والبعيدة عن الاعتماد أو الحاجة إلى إنتاجية الفرد وضرائبه! وإذا كان المقام لا يسمح بالتوسع في كشف ضعف الواقع الموضوعي تاريخيا لمتطلب الديمقراطية وكذلك  في الفكر العربي إلا انه من المفيد الرجوع إلى الدراسة القيمة للأستاذ خالد الحروب حول مبدأ المواطنة في الفكر القومي العربي – من الفرد القومي إلى الفرد المواطن- حيث أكد عبر استشهاداته من أمهات الكتب القومية التقليدية بأن مبدأ المواطنة بمعناه الحديث القانوني والديمقراطي لم يحظ بتأصيل عميق في الفكر القومي العربي التقليدي في القرن العشرين, وظل هذا المبدأ مهجوراً في النظرية القومية العربية، والأخطر منه أنه ظل بعيداً عن التطبيق والممارسة في الدول التي حكمتها أنظمة قومية التوجه، كما في غيرها من المجتمعات ذات الأنظمة الشيوعية والاشتراكية والإسلامية على حد سواء , وكان تجاهل الفكر القومي لمبدأ المواطنة نتيجة طبيعية لعدم إيلائه موضوعة الديمقراطية اهتماما جوهرياً وانشغال الأجندة القومية بجداول اهتمامات كان الاعتقاد بأنها أكثر إلحاحا، كتحرير فلسطين والوحدة العربية ومقاومة الاستعمار. (خالد الحروب).



الخلاصة …. ما ينبغي أن يكون:

بمقارنة سريعة بين السمات القيمية والثقافية والسياسية للاقتصاد الريعي وبين مقومات المجتمع الديمقراطي تتجلى صعوبة الاقتناع بالتوافق والانسجام بل التصالح التـــام بينهما . الأمر الذي يؤدي على الصعيد العملي إلى تطبيق مشوه أو ناقص للمبادئ الأساسية للدولة الديمقراطية في المجتمعات الريعية مادامت هذه المجتمعات لم تتخلص من العديد من ثوابتها الريعية:

  1. فعلي صعيد فكرة المواطنة هناك تعزيز للمواطن الذي يتم توزيع ثروة الريع عليه بدلاً من تعزيز المواطنة المرتبطة بالقانون, وهذا ما يؤدى إلى التمييز بين المواطنين ، بل أن مبدأ المواطنة الذي يحاول البعض أن يعرفه ليس ذلك المبدأ المرتبط بالمفهوم المعاصر للمواطنة, وإنما هو مفهوم كان سائداً في منتصف القرن السابع عشر في أوروبا حيث كان قبول مبدأ المواطنة بهدف درء الفتن بسبب تنوع الشيع الدينية بعد أن تقوضت سلطة الكنيسة الكاثوليكية والذي أزكي بدوره الفتن فيما بين الشيع الدينية, واستمرت هذه الفتن حتى بلغت حداً من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ولو ببطء وتردد أن يتجاوزا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة, وأن يسلموا بمبدأ آخر وهو أن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة (الكواري- مصدر سابق).
  2. وعلى صعيد تعزيز مبدأ المواطنة أيضاً وحسب تعريفات جميع الموسوعات العلمية ألموثوقه فأن في الدولة الديمقراطية يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة من البالغين الراشدين بحقوق المواطنة فيها ولا تصبح بالتالي الجنسية مجرد (تابعية) لا تتوفر لمن يحملها بالضرورة حقوق المواطنة السياسية, ولذلك فأن مقومات المواطنة هي تعزيز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو الطبقي أو العرقي أو الثقافي, وعلى القانون أن يحمى وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد  وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضاً ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف, كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفاعلية في اتخاذ القرارات السياسية التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية (الكواري- مصدر سابق) .
  3. وعلي الصعيد الاقتصادي فان جوهر فكرة الدولة  الريعية يتمثل في التفرقة بين الأقلية والأغلبية وهو ما يتعارض مع مفهوم المساواة والعدالة في الدولة الديمقراطية, ذلك أن امتلاك القلة للثروة الريعية ودون اعتمادها أو حاجتها لموارد وإنتاجية الفرد سوف يؤدى إلى تركيز القوة السياسية في يد مالكي الثروة أيضاً.  فضلاً عن أن العقلية الريعية التي تفصل الإنتاج عن الجهد والمخاطر تفرز سلوكاً متعارضاً مع اعتماد المجتمع على الإنتاج ومخرجاته .
  4. وعلى الصعيد السياسي يصبح دور الدولة الريعية باعتبارها موزعة للمزايا والخدمات هو الدور الرئيسي في إدارة الحكم, الأمر الذي يعكس نفسه على نظرة الأفراد إلى حقوقهم في المشاركة السياسية بحيث يصبحون اقل تشدداً في المطالبة بهذه المشاركة, فإذا كانت الدعوة للديمقراطية قد وجدت أحد أصولها في مطالبة الأفراد في المشاركة في تحديد عبء الأعباء العامة المفروضة عليهم, وخاصة الضرائب, فان انعدام أو ضالة حجم الأعباء المفروضة على الأفراد قد ضعف من هذه المطالبة السياسية بالديمقراطية والمشاركة في الحكم, وكانت معظم المشاركة السياسية المحدودة منحة من الحاكم تمنح وتمنع وفقاً لرغباته دون مقاومة شديدة من الأفراد (حازم الببلاوي).

وحسب (لوشياني) فان الديمقراطية ليست مشكلة بالنسبة لدول رصد التخصيصات (الدول الريعية) ومع أن هذه الدول تجد من مصلحتها الآنية أن تقيم نوعاً ما من الهيئات التمثيلية للتنفيس عن بعض النقمة والسيطرة عليها والتي تولدها حتى سياسة أروقة البلاط، ولكن هذه الهيئات تكون حتماً ذات صلة ضعيفة جداً بمن تمثلهم في الظاهر, إن مناقشاتها يتابعها الجمهور بلا مبالاة كما أن بوسع الحاكم حلها فلا يواجه أية مقاومة على الإطلاق, والسائد هو عدم وجود هيئات تمثيلية إطلاقا, أما الحاجة لإقامتها فلا تجد سوى معسول الكلام وحتى هذا إنما يقصد منه إرضاء رغبات الرأي العام في الخارج أكثر من تلبية الضغط الكبير في الداخل (لوشياني).

5. الراعي والرعية : أعتقد بأن مفصل التحرر من العقلية الريعية على الصعيد السياسي وتعزيز مبدأ المواطنة هو أن تتحرر الدولة الريعية من مفهوم التعامل مع المواطن باعتباره رعية وباعتبار الحاكم هو الراعي الأول في المجتمع. ولقد أسهب الدكتور محمد عابد الجابري في تفكيك مفهوم الراعي والرعية معتمدا على اجتهادات المفكر ميشيل فوكو، ونظراً لأهمية هذا الموضوع وارتباطه بالعقلية الريعية فأننا سنتوسع فيه قليلاً مقتبسين الفقرات المهمة ذات العلاقة بموضوعنا من كتاب الجابري .

لقد لاحظ فوكو أن التصور الذي يجعل من الملك أو الرئيس (راعيا) ليس من التصورات الشائعة في الفكر والنصوص الأساسية اليونانية والرومانية المتعلقة بالسياسـة , في حين أن هذا التصور يعتبر شائعاً في حضارات الشرق القديم، ففرعون كان يعتبر راعياً, وملك بابل كان يلقب (براعي الناس), ولم يكن لقب (الراعي) خاصاً بالملوك وحدهم بل لقد كان يطلق كذلك على الإله، فالبابليون كانوا يعتبرون إلههم راعيا يقود الناس إلى المرعى ويتولى إطعامهم، والعبرانيون الذين توسعوا في استعمال مفهوم الراعي والرعية أضافوا خصوصية متميزة حيث اعتبروا (يهوه) – الله عندهم – وهو وحده الراعي لشعبه، أن شعب إسرائيل يرعاه راع واحد هو إلهه يهوه ولم يكن هناك من راع آخر له إلا في حالة واحدة وذلك عندما كلف الله النبي داود بجمع القطيع (= بني إسرائيل) فأسس  ملكا وأصبح يلقب بالراعي .

وانطلاقا من هذه الملاحظات يبرز فوكو الفرق بين السلطة الرعوية في الشرق القديم والفكر السياسي عند اليونان، حيث أن في الفكر الشرقي القديم يمارس الراعي سلطته على (قطيع), على رعية وليس على الأرض كما في الفكر اليونان. ولذلك فالعلاقة بين الإله والبشر تختلف في البنيتين المعرفيتين، فالآلهة عند الإغريق يملكون الأرض وهي التي تحدد العلاقة بينهم وبين الناس, فهم يتحكمون في الفصول والخصب, أما في الفكر الشرقي القديم فليس هناك هذا (التوسط) (= الأرض) في العلاقة بين الإله الراعي ورعيتة، حيث أن العلاقة بينهما مباشرة، الإله الراعي يمنح الأرض لشعبه.


والفرق الثاني: أن مهمة الراعي أن يجمع شمل الرعية ويقودها، أي أن الأفراد المتناثرون المشتتون يلبون دعوة راعيهم، وما أن يختفي الراعي حتى يتشتت شمل القطيع/الرعية, أي أن وجود (القطيع) كمجموعة واحدة مرهون بالحضور المباشر للراعي، وهذا يختلف في الفكر اليوناني حيث تمكن الحكيم (صولون) أن يفصل في النزاعات وذهب وترك وراءه  مدينة (دولة) قوية مزودة بقوانين.


والفرق الثالث: أن الراعي في الفكر الشرقي القديم يرعى  رعاية دائمة, ولكل فرد من رعيته يسهر على إطعامه وخلاصة بوصفه فرداً، أما الراعي اليوناني فكل ما يطلب منه هو أن تجود الأراضي الخصبة والثروات الوفيرة ويترك للأفراد أن  يتصرفوا في الحصول على حاجاتهم .


والفرق الأخير هو: أن قرارات الرئيس (الراعي) يجب أن تكون لصالح الجميع وهي قرارات تصدر عن فكرة الواجب، فواجبه كراعي يفرض عليه ذلك وإذا خالف ذلك فهو رئيس سيئ وثوابه هو تخليد الشعب له. أما الراعي الشرقي فيرعى شعبه من دافع الإخلاص يخلص لرعيته ويسهر على قطيعة.

وفكرة السهر هنا مهمة جداً لتأسيس العقلية الريعية بل والدولة الريعية، فدلالة  الراعي وهو يعمل لتدبير الطعام لقطيعه بينما قطيعه نائم ( لا ينتج), وهي تعني أيضا بأن على الراعي وهو يسهر على كل فرد من رعيته أن لا يسهو ولا يغفل وبالتالي وهو يقوم بهذا النوع من الرعاية يحتاج  إلى  معرفة كل شاذة  وواردة عن أفراد قطيعة (لذلك نلاحظ مدى قوة أجهزة الأمن في المجتمعات الشرقية وتدخلها السافر في الحياة الشخصية للمواطن) .

ورغم أن فوكو يرى بأن المجتمعات الرأسمالية الراهنة قد أخذت بفكرة الراعي الشرقي أبان انتقالها عن طريق المسيحية القادمة من الشرق و بالتالي ابتعدت أوروبا عن العقلية اليونانية، إلا أن ما يهمنا أن هذه الفكرة الشرقية التي سادت في مرحلــــــة تاريخيــــــة ومازالت جذورها موجودة في مجتمعاتنا العربية .

والنقطة المهمة هنا والمرتبطة بالمشاركة السياسية كإحدى المقومات الرئيسية للدولة الديمقراطية هي أن فكرة الراعي ارتبطت عندنا بالواحد الأحد، وكثيراً ما يعتبر تعدد الرعاة على رعية واحدة (= المشاركة السياسية) حتى ولو كانوا قليلي العدد، بمثابة تعدد الإله!.  وبالتالي فكما أن (الشرك) في ميدان الدين غير مقبول ولا معقول, فكذلك ينظر الحاكم إلى (المشاركة) في الحكم أنها ما زالت كفرا وإلحادا في السياسة, على الرغم من شعار ( التعددية ) في الثقافة السياسية العربية الراهنة.(نقد العقل السياسي العربي، الجابري، اقتباس بتصرف).

وأخيراً ، فان خلاصة الخلاص الذي يحقق التصالح بين مقومات وثوابت مجتمعاتنا الريعية ومقومات وثوابت الدولة الديمقراطية وتعزيز مبدأ المواطنة تتمثل حسب أطروحة الجابري في الانتقالات النوعية الثلاث التالية :


  1. تحويل (القبيلة) بمفهومها الواسع الذي يشمل كل بنية عصبوية  (القبيلة – الطائفة – العصبويات الأخرى) إلى اللا قبيلة , أي إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي من أحزاب ونقابات وجمعيات حرة ومؤسسات دستورية … الخ, بمعني آخر بناء مجتمع فيه تمايز واضح بين المجتمع السياسي(الدولة وأجهزتها) والمجتمع المدني (التنظيمات الاجتماعية المستقلة عن أجهزة الدولة).

  2. تحويل (الغنيمة) إلى اقتصاد إنتاجي، أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي. أن الاقتصاد الخليجي ومنه البحرين يطغي فيه الريع بكل مكوناته وتوابعه من عطاء وعقلية ريعية … الخ ولا يمكن الحديث عن مجتمع المشاركة السياسية الفعلية إلا إذا تم تحويله إلى اقتصاد إنتاجي تعتمد الدولة على موارد وإنتاج المجتمع بدلاً من أن يعتمد الاقتصاد والناس والمجتمع على ثروة الدولة الريعية .

  3. تحويل (العقيدة) بمفهومها الواسع أيضاً إلى مجرد رأي ، أي بدلاً من التفكير المذهبي الطائفي  أو القبلي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب منح المجال لحرية الفكر، لحرية المغايرة والاختلاف، وذلك أن مقومات الدولة الديمقراطية، حرية الرأي والعقيدة ونسبية الحقائق وتواجد الآراء المختلفة وحريتها في إبداء مرئياتها وتأسيس حركة المعارضة فيها.


 

إنتهى